فلسطين: استلاب التاريخ.. قبل الأرض

عمل فني للفنان الفلسطيني سليمان منصور عنوان (جمل المحامل ٢) - ٢٠٠٥

عمل فني للفنان الفلسطيني سليمان منصور عنوان (جمل المحامل ٢) – ٢٠٠٥

كانت الدراسات التاريخية التي اعتمدت على الحفريات الآثارية أساساً مرجعيا لها قد اعتمدت في الجامعات الأوربية ومراكز الأبحاث التاريخية كمرجع أساسي في البحث التاريخي, وتخلص بذلك البحث التاريخي والكتابة التاريخية من التفسيرات الغيبية والأساطير في تفسير التاريخ البشري, فانطلقت مدارس البحث والتنقيب عن الآثار ودراستها لفهم تاريخ البشرية منذ أقدم عصورها.

 وفي منطقتنا العربية اهتم المستشرقون والرحالة والمكتشفون الأوربيون الأوائل بالبحث والتنقيب عن آثارنا والكشف عنها, فتحملوا المشاق ومضايقات المناخ القاسي ووعورة الصحراء للكشف عن تلك الآثار لدراسة تاريخنا في عصوره المختلفة وقرأوا وفسروا ما تكشف لهم من طبقات من التاريخ عبر العصور بالطرق التي فهموا بها تلك الآثار مسلحين بثقافاتهم ومدارسهم التاريخية التي نشأوا عليها وعالجوا بها تاريخهم وآثارهم. وكانت تلك الاكتشافات العظيمة في بلادنا أمضى سلاح استخدموه في دراسة أوطاننا وشعوبنا في العصر الحديث, ورسموا من خلالها استراتيجياتهم للسيطرة على المنطقة بأسرها, وهيمنوا على ثرواتها الهائلة سواء منها ما هو على سطح الأرض أو تلك التي نقبوا عنها في باطنها.

          جرى كل ذلك أمام أعيننا ونحن لا نرى في تلك الاكتشافات الآثارية الهائلة إلا بقايا (أمم سادت ثم بادت) وهذه (سنة الحياة) دون أن نتساءل لماذا يتحمل هؤلاء الأجانب كل هذه المشاق في مصارعة أهوال الطبيعة وهم ينقبون, بصبر وتؤدة, عن آثارنا ويستخرجونها من بطون الأرض ويعكفون على دراستها وتحليلها وفك رموزها وطلاسمها.

موقف عدواني

          إن موقفنا تجاه آثارنا يكاد يكون عدائياً وعدوانياً, سواء في تجاهله وعدم الكشف عنه والاعتناء به, أو في تدميرنا لما هو موجود منها على سطح الأرض ولا أخالني أجافي الواقع لو قلت إننا حتى اليوم, الذي انتشرت فيه المدارس والجامعات على امتداد الأرض العربية, لانزال نعادي آثارنا بالتجاهل والاحتقار والإهمال, ناهيك عن الترفع والتعالي عن دراستها والبحث فيها.

          والذي حملني على الاقتراب من هذا الموضوع هو ذلك الكتاب الخطير الذي يثير قضايا بالغة الأهمية حول تاريخ فلسطين وما يحملنا من ذنب لإهمالنا دراسة ذلك التاريخ مما أدى إلى (اخـتلاق إسـرائيل القديمة.. إسكات التـاريخ الفلسطيني) وهو عنوان الكتاب لمؤلفه العالم البريطاني المعاصر كيث وايتلام, وهو رئيس قسم الدراسات الدينية بجامعة ستيرلنج (STIRLINGبأسكتلندا, بالمملكة المتحدة البريطانية.

          إن في مقدمة هذه القضايا, التي يطرحها الكتاب, ذلك التقاعس الذي يأخذه وايتلام على المؤرخين وعلماء الآثار المتخصصين في تاريخ المنطقة, والذي سمح ـ كما يرى ـ لعلماء اللاهوت والباحثين التوراتيين في الغرب أن يفرضوا خطابهم المبني على (اختلاق تاريخ لإسرائيل قديمة) وإسكات تاريخ فلسطين القديم أو إدراجه كجزء, فقط من سياق تاريخي أعم وهو تاريخ إسرائيل القديمة. وما يهمنا بوجه خاص من أمر هذا التقاعس هو الجانب العربي منه, والمتمثل في خلو الدوائر العلمية العربية المتخصصة في تاريخ المنطقة وآثارها من أي جهد علمي منهجي منظم من أجل بناء خطاب للتاريخ الفلسطيني يوفر ـ من خلال إنجاز دراسة الأعمال المسحية والآثارية في المنطقة ـ فهماً أكثر إيجابية للمنجزات المادية والحضارية لسكان هذه المنطقة ككل, ومن ثم دحض النظرة التطويرية التي فرضها باحثو الدراسات التوراتية الغربيون والتي افترضت حلول الحضارة الإسرائيلية (إن وجدت) محل الحضارة الكنعانية, وعملت على الحط من قدر المميزات والسمات الثقافية والفنية للاكتشافات الآثارية في أرض فلسطين القديمة.

          لقد غابت عن أفق البحث التاريخي والآثاري العربي المعاصر تلك المهمة الملحة التي يسلـط المؤلف في كتابه المهم ضوءا قويا عليها, والمتمثلة في تحرير التاريخ الفلسطيني من عبودية وطغيان الدراسات اللاهوتية التوراتية وخطابها المهيمن على مراكز البحث اللاهوتي والتاريخي في جامعات الغرب ومراكز دراساته المتخصصة في آثار المنطقة وتاريخها القديم, تلك المهمة التي تقتضي التحرر أولا من القيود اللاهوتية التي هيمنت على تاريخ المنطقة, والسير في اتجاه خطاب تاريخي يسمح ببناء تصورات بديلة للماضي, وهو ما سيحرر أيضا الفترات السابقة واللاحقة من قبضة التاريخي الإسرائيلي المهيمن.

اختلاق التاريخ

          إن الفكرة الجوهرية التي يدور حولها كتاب (اختلاق إسرائيل القديمة) هي أن الباحثين التوراتيين قد اختلقوا تاريخا (لإسرائيل قديمة) خلال الفترة الممتدة من أواخر العصر البرونزي حتى بداية العصر الحديدي, وهي الفترة التي شهدت نشوء (مملكة إسرائيل) مما عتم على تاريخ فلسطين القديم وأسكته بفاعلية, ويدعو وايتلام إلى إعادة نظر جذرية فيما يعرف بفترة (المملكة المتحدة) (أي مملكة داود وسليمان) حيث أدى وهم (إمبراطورية) داود على أنها دولة عظمى كانت في المنطقة ومحاولة الترويج لفكرة وجود استمرارية تاريخية بينها وبين إسرائيل المعاصرة, معتبرين هاتين الفترتين هما (اللحظتين الحاسمتين) في تاريخ المنطقة متجاهلين كل تاريخ شعوب ودول وديانات المنطقة, مما أدى إلى تشويه تام لتاريخ المنطقة.

          وينوه المؤلف إلى أن كتابه ليس محاولة لإنكار مملكتي داود وسليمان, إنما هو محاولة للدعوة لإعادة التوازن بعد أن تم تصوير التاريخ الإسرائيلي واليهودي على أنه تاريخ المنطقة الوحيد بدلا من كونه جزءا من تاريخ فلسطين القديم والأشمل. فلو نظرنا من منظور أوسع وأشمل وأطول زمنا, فإن تاريخ إسرائيل القديم سيبدو لحظة قصيرة في التاريخ الفلسطيني الطويل.

          ويقول المؤلف عن كتابه إنه محاولة لإيضاح معالم الفكرة القائلة إن تاريخ فلسطين موضوع قائم بذاته يحتاج إلى تخليصه وتحريره من قبضة الدراسات التوراتية, وهو يؤكد أن من الملائم تسميتها (فكرة) لأنها حتى الآن لم تدخل في مضمار الحقائق العلمية, ولفترة طويلة اعتبر التاريخ الفلسطيني فرعاً (صغيراً) من الدراسات التوراتية التي هيمنت عليها الدراسات التاريخية المستوحاة والمعتمدة أساساً على التوراة ككتاب ديني كتب في فترات متعددة ومتباعدة. ولهذا فإن تاريخ فلسطين ـ وخاصة منذ القرن الثالث قبل الميلاد حتى القرن الثاني الميلادي ـ لا وجود له علميا إلا كخلفية لتواريخ إسرائيل ويهودا أو فترة الهيكل الثاني اليهودية, فلقد صُنف تاريخ فلسطين تحت بند التطورات الاجتماعية والسياسية والدينية ـ وهو الأهم ـ لإسرائيل القديمة.

بناء الماضي وصراع الهوية

          لقد أسكت التاريخ التوراتي كل مظاهر التاريخ الأخرى في المنطقة من العصر البرونزي حتى الفترة الرومانية. ويرى وايتلام أن بناء الماضي هو في جوهره صراع حول تعريف الهوية التاريخية والاجتماعية, فإذا تمكنا من تغيير المنظور الذي تنبع منه هذه التصورات فسيتضح أمامنا عندئذ أن خطاب الدراسات التوراتية قد اختلق تاريخا يعكس في كثير من جوانبه حاضر هذه الدراسات السياسي والأيديولوجي, وسيصبح بإمكاننا من ثم أن نحرر التاريخ الفلسطيني ونتقدم في اتجاه خطاب يسمح ببناء تصورات بديلة للماضي, وهو ما سيحرر الفترات السابقة واللاحقة من قبضة التاريخ الإسرائيلي.

          لقد تعمد المؤلف استخدام عدد كبير من الاقتباسات من مؤلفات معروفة في هذا المجال لكي يبين ماذا فعل خطاب الدراسات التوراتية ـ من فمه ـ موضحا في سياق تحليله لتلك النصوص المقتبسة أن الدراسات التوراتية تعتبر التوراة العبرية بمنزلة كتاب تاريخي, مركزا في طيات كتابه على خطورة هذا الادعاء, ومنوها إلى أن هؤلاء التوراتيين وعلماء الآثار الغربيين قد جاءوا إلى فلسطين, كما كان يقال, (والمجراف في يد, والتوراة في اليد الأخرى).

          ويوضح وايتلام أن التواريخ التي جاءوا بها لا تعدو كونها تكراراً, أو صياغات (بتصرف) للقصص التي وردت في التوراة العبرية, والتي لا تزيد بدورها على كونها قصصاً خيالية.

          إن إعادة بناء التاريخ, كما يقول وايتلام, هي عمل سياسي بالدرجة الأولى, ومن ثم يوضح في طيات كتابه كيف يؤدي هذا الفهم إلى كتابة تواريخ منحازة. لقد صورت (إسرائيل القديمة) على أنها دولة ناشئة تبحث عن وطن قومي, وفي القرن العشرين هيمن هذا الإسقاط لإسرائيل القديمة, وأصبح أكثر نفوذا مع صعود الحركة الصهيونية التي هي في جوهرها مشروع أوربي. وظلت هذه الأفكار سائدة ومهيمنة حتى السبعينيات دون أن يشكك أحد في صحتها, على الرغم من المكتشفات الأثرية التي تقول بعكس ذلك. وأصبح تصوير الماضي على هذا النحو (حقيقة) يصعب التشكيك فيها, نتيجة لتكرارها المستمر على ألسنة, أو بأقلام أهم الأكاديميين المتخصصين في المجال التوراتي. وأصبحت هذه الأفكار واسعة الانتشار في الأوساط الأكاديمية المعنية, مختفية في الكثير من الكتابات التاريخية (الاستشراقية) وراء ستار لغوي يتسم بالمعقولية والموضوعية والنزاهة غير المنحازة دينيا.

إلغاء التاريخ الفلسطيني

          أما إسرائيل, فقد تمتعت منذ إنشائها عام 1948م بسيطرة مدهشة على البحث الأكاديمي الغربي, ووظفت الطاقات الهائلة ـ الفكرية والمادية ـ للبحث عن (إسرائيل القديمة), وهذا البحث لا يقابله أي بحث مماثل عن التاريخ الفلسطيني للفترة نفسها أو لأي من الفترات اللاحقة. فخطاب الدراسات التوراتية, شأنه في ذلك شأن الخطاب الصهيوني المعاصر, يرفض الاعتراف بالقيمة الكامنة للثقافة المحلية (أي تاريخ وفنون الكنعانيين) وحقها في أن يكون لها تاريخها الخاص. ويرى وايتلام أنه من الضروري أيضا إيضاح الدوافع السياسية للدراسات التوراتية وتصورها للماضي, ويسلط الضوء على نقطة جوهرية حين يقول إن النضال من أجل (السماح بسرد التاريخ الفلسطيني المعاصر) ـ هذا النضال الذي خاضه جورج أنطونيوس ومحمد مصلح وعبداللطيف الطيباوي ووليد الخالدي وإبراهيم أبو لغد وإدوارد سعيد وغيرهم ـ هذا النضال أخفق في استعادة الماضي القديم من قبضة الغرب وإسرائيل, بل يذهب إلى أن التاريخ الفلسطيني القديم قد تم التخلي عنه لمصلحة الغرب وإسرائيل.

          يقول وايتلام إن إدوارد سعيد يشكو من أن أهم مظاهر نجاح الحركة الصهيونية كان غياب أي تاريخ رئيسي لفلسطين العربية وسكانها, ثم يضيف أن صمت التاريخ هو أكثر عمقا في واقع الأمر. ذلك أن اهتمام سعيد ينصب بالدرجة الأولى على التاريخ المعاصر لفلسطين, ومن ناحية أخرى فإن بحث أوربا عن جذورها, الذي اقتبسته الصهيونية وعملت به في محاولتها إضفاء الشرعية على جذورها هي, استبعد أي مطالبة فلسطينية بالتاريخ القديم. ويبلغ هذا الاستبعاد حدا من القوة يجعل فكرة وجود تاريخ فلسطيني قديم لا تخطر حتى ببال الكتاب المهتمين بنقض الفكر الصهيوني المعاصر.

          وعلى الرغم من ظهور العديد من الدراسات التي حاولت رد الاعتبار للتاريخ الفلسطيني, خلال العقود الأخيرة (والتي يعرض لها المؤلف تفصيلا في ثنايا الكتاب) فإن هذه الدراسات ظلت مقيدة بخطاب الدراسات التوراتية وأسيرة لها, كما أن هذه الأعمال (التصحيحية) ـ عند ألتروم وطومسون وويبرت وغيرهم ـ لم تتطرق إلى السؤال الجوهري حول ماهية العوامل الثقافية والسياسية التي قيدت التاريخ الفلسطيني القديم وجعلته أحد التواريخ المستبعدة التي أسكتها التعصب الأوربي, أو الرؤية الغربية للماضي. وتظل أكبر المعوقات ضد تحقيق تاريخ فلسطين القديم, في رأي المؤلف, متمثلة في أنه حتى لو تم تحرير هذا التاريخ من قيود أو هيمنة الدراسات التوراتية فسوف يظل حكراً على العلوم الغربية.

خارج الدراسات التوراتية

          وفي ضوء ما سبق, وحتى يُعطى صوت لتاريخ فلسطين القديم, لا غنى عن بناء خطاب للتاريخ الفلسطيني خاص به. وأي تقدم في هذا الاتجاه سيعتمد في الأساس على قيام علماء الآثار بنشر نتائج بحوثهم وكشوفهم باستمرار لكي يتمكن المؤرخون من تفسير المعطيات في سياق مقارن ومشترك بين فروع المعرفة المختلفة.

          إن على التاريخ الفلسطيني أن يخلق لنفسه مكانا خاصا به حتى يتمكن من إنتاج روايته الخاصة للماضي, وعلينا ـ نحن العرب في جامعاتنا ومراكز دراساتنا التاريخية ـ أن نجد له موقعاً بديلا خارج نطاق الدراسات التوراتية, كما يتعين الاعتراف بالتاريخ الفلسطيني كموضوع قائم بذاته حتى يتمكن من تحدي اختلاق إسرائيل القديمة.

          كذلك يتحتم تحرير التاريخ الفلسطيني القديم من قبضة الدراسات التوراتية, والمطالبة بموقع خاص له ضمن الخطاب الأكاديمي في اقسام التاريخ العربية, التي تجاهلته كذلك وسارت وراء المدرسة الغربية الأوربية باعتباره جزءا من تاريخ (إسرائيل القديمة).

          إن ما يدعو إليه وايتلام فيما سبق يعنينا ـ نحن العرب ـ بالدرجة الأولى ويحمل جامعاتنا ومراكز دراساتنا التاريخية مسئولية مواجهة هذا الاستيلاء التوراتي على التاريخ الفلسطيني, وأقول على تاريخ المنطقة بأسرها فتهويد التاريخ القديم جزء من تهويد التاريخ الحديث للمنطقة.

          إن دراساتنا العربية ظلت حتى الآن أسيرة لخطاب الدراسات التوراتية, وتابعة لأقسام التاريخ بالجامعات الأوربية. وعلى هذا فإن مراكز الدراسات التاريخية العربية وفي مقدمتها أقسام التاريخ والآثار بجامعاتنا ـ أمام هذا الصراع التاريخي الطويل ـ تتحمل مسئولية الاستجابة لدعوة هذا العالم البريطاني البارز في التوجه إلى تعزيز معالم تاريخ فلسطين القديم وإنجاز استقلاله عن هيمنة خطاب الدراسات التوراتية الغربية, خاصة وأن كل المحاولات الصهيونية في التنقيب قد باءت بالفشل في الوصول إلى ما يثبت تلك المدرسة التوراتية, وفي المقابل فإن الاكتشافات الآثارية الحديثة في المنطقة المحيطة بدولة إسرائيل الحالية تؤكد على عظمة حضارة الشعوب غير التوراتية في المنطقة.

          إن وايتلام يرى أن محاولة تحديد معالم فكرة وجود تاريخ فلسطيني قديم قائم بذاته هو ما سعى كتابه هذا إلى تحقيقه, أما تجسيد هذه الفكرة فينتظر أعمالا أخرى, وهو يأمل أن يولي الآخرون (فأين نحن بين هؤلاء (الآخرون)!) اهتماما بنوعية الأسئلة التي أثارها في كتابه, وكذلك أن يسعوا إلى إلقاء المزيد من الضوء حول العلاقة بين السياسة والدراسات التوراتية.

          وتلك دعوة ننقلها إلى أقسام التاريخ والآثار في جامعاتنا ومراكزنا البحثية, ونتطلع معه إلى أن يسهم علماؤها ومفكروها وباحثوها في إكمال ما بدأته هذه الدراسة الرائدة.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*