قرن يمضي .. قرن يجئ: العرب والقرن الواحد والعشرون

من أعمال الفنان السوري فاتح المدرس (بدون عنوان) – ١٩٦٢

أيام معدودة، وتقلب يد التاريخ صفحة القرن العشرين الحافلة، ليطل علينا قرن جديد وألفية ثالثة أحفل وأخصب بالتحوّلات والتحدّيات، ومع أن مجرد التغير الرئيسي في التقويم الزمني- كالانتقال من قرن إلى قرن، أو من ألفية إلى ألفية- لا يعني بالضرورة أن هناك تغيّراً رئيسياً يجري في العالم، فإن النقلة الراهنة إلى القرن الجديد والألفية الثالثة تتزامن، بل تقع في قلب أسرع وأعمق تحول في تاريخ البشرية، هذا التحوّل الذي نجم عن حصاد علمي وتكنولوجي ومعرفي تحقق في هذا القرن، وفاق ما سبق أن أنجزته البشرية في كل ما مضى من قرون، والذي بدأت خطاه تتسارع في سنوات العقد الأخير ليصل إلى مرحلة متقدمة مع إطلالة القرن الجديد.

          ينتهي القرن الذي أضاف لمجريات الحياة البشرية السينما والتلفزيون، والنظرية النسبية ونظرية الكم، واكتشاف الذرة، والطائرة وسفن الفضاء والأقمار الصناعية، والهندسة الوراثية والكمبيوتر والمعلوماتية، والإنترنت، وطريق المعلومات السريع، والسوق الكونية… والذي شهدت بداياته وما قبل أواسطه عولمة الموت عبر حربين عالميتين، ثم شهدت نهاياته عولمة الحياة عبر نشوء السوق الكونية وثورة الاتصالات، ونهاية الحرب الباردة وصولاً إلى التدخل في شئون الدول، ورسم سياساتها الاقتصادية، وفرض قوانين حماية حقوق الإنسان والملكية الفكرية، وحرية التجارة بين الدول، لإسقاط كل الحواجز الجمركية وقوانين منع التداول الحر للبضائع والمنتجات الزراعية والصناعية.

مرحلة الانبهار

          وعلى أبواب القرن الجديد، قرن العولمة والسوق الكونية والثورة العلمية الثالثة، نقف نحن العرب وكثير من الشعوب الإسلامية وقفة ذلك الرجل الريفي القادم توّاً من القرية النائية مشدوهاً على أبواب مدينة صاخبة، تبهره الحركة العارمة للسيارات والطائرات، ويقف خياله وجلاً ومتراجعاً عن استكناه ما وراء هذه الحركة السريعة للحياة في المدينة من أسباب وقوانين ومقوّمات، وتتردد قدماه في الدخول إلى قلب تلك الحركة الدائرة.

          مازلنا نعيش، في كثير من مناحي حياتنا، مرحلة الانبهار بمنجزات الحداثة وما بعدها، وبسرعة توالدها وتجدّدها وبإفرازاتها عميقة التأثير، لم نتجاوز، برغم اجتهادات النهوض والتحديث والتنمية ونجاحاتها الجزئية في النصف الثاني من القرن، لم نتجاوز مرحلة “الفرجة” و “المشاهدة من بعيد”، وتغليب الشك والحذر والريبة، وتقليب الرأي أحياناً فيما نرى- بين مرحب وشاجب- إلى مرحلة إعادة إنتاج طرائق فهمنا للراهن والسعي لاستكشاف القادم، والتهيؤ للتعامل معه، مع أن استكشاف القادم لم يعد مهمة زائدة بالنسبة للشعوب والمجتمعات الغنية والنامية على السواء، بل هو مهمة تقع في قلب شرط النهـوض إلى مستوى الفعل في مجريات عالمنا.

تغيير الرؤى

          إن إحدى الإشكاليات الكبرى التي تواجه مجتمعاتنا العربية، ومجتمعات العالم المتخلف بعامة هي أن السرعة التي يقتحمنا بها عصر “ما بعد الحداثة” وتعولم الأسواق والثقافات والمعلومات لاتتيح الوقت الكافي- مع بطء إيقاع إحساسنا بضرورات التغيير- لتطوير رؤانا وممارساتنا، ومن ثم، فمازلنا نحاول أن نواكب أوضاع بدايات القرن الجديد بفكر وممارسات تجاربنا في التحديث والتنمية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين- الذي نودّعه بعد أسابيع معدودة- وذلك مسعى لم يعد مجدياً في مواجهة التحدّيات المتنوّعة والمتداخلة التي يطرحها عصر العولمة البازغ على مختلف الأصعدة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.

          إن الخيار ليس متاحاً في واقع الأمر أمام مجتمعاتنا وشعوبنا، نتعولم أو لا نتعولم، إنما السؤال هو: هل نحن قادرون على مواجهة تحدّيات واقع بشري معَوْلم لا محالة؟، وكما أن الخيار لم يعد متاحاً أمامنا، كذلك لامجال أمامنا إلا أن نبدأ الآن في الدرس النقدي الواعي، بعقل منفتح ودون عقد أو خوف، لأسباب ما يشهده عالمنا من تحوّل، والسعي بجدية كاملة إلى الاستيعاب الفاعل لما حدث من تحوّلات وإلى امتلاك القدرة على التعامل مع ما هو قادم.

          علينا أن ندرس ونستوعب، على صعيد مؤسساتنا التعليمية وأنشطة البحث العلمي والثقافي والفكري، مناهج وبنى ونتاج الفكر الذي أنجز ويواصل إنجاز كل هذا الإبداع العلمي والتكنولوجي المعاصر، والفلسفات والقيم العلمية والثقافية والاجتماعية التي أدت بتلك المجتمعات إلى تصدّر المشهد الحضاري لهذا العصر، بل التفرّد بهذا المشهد بلا شريك على الإطلاق من خارجه.

          إن طبيعة المخاطر المهددة للهوية الثقافية العربية في مواجهة عولمة الاقتصاد والاتصال والثقافة، وانتشار رقعة السوق الكونية، لا تتعلق بعمليات العولمة وتداعياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية بقدر ما تتعلق بمدى قدرة هذه الهوية الثقافية العربية على تجاوز أزمتها المتمثلة في ضعفها وعجزها عن إعادة إبداعها لذاتها في سياق حركة اجتماعية عنوانها وأفقها المحرّك هو التنمية الشاملة وتوسيع إطار الديمقراطية، وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، وتفعيل قيم الحوار والتعددية، وقبول الرأي والرأي الآخر، وفي القلب من تلك الحركة الاجتماعية توفير حرية التفكير والبحث العلمي، وإنشاء نظام تعليمي مختلف كلياً عن النظم القائمة حالياً في مجتمعاتنا العربية، مختلف في مادته وفلسفته، ويقوم في الأساس على تأهيل وإعداد كوادر تعليم عالية المهارات، واحترام عقل المتلقي، وتوفير وسائل تمكينه من الاستيعاب الناقد للمعلومات والآراء وإبداع الأفكار، واختصار الزمن في مناهجنا التعليمية وإطلاق العنان للطاقات الشابّة في كل المجالات لكي تفكّر وتبدع وتعزز ثقتها بإمكاناتها.

مستقبل الأرض

          ولعله من الواجب أن أشير هنا إلى ذلك الفوز العلمي الكبير الذي حققه العالم العربي المصري أحمد زويل عندما فاز بجائزة نوبل في العلوم/الكيمياء، ونحن على مشارف الألفية الثالثة، ليضفي تأكيداً لحقيقة أن العلم ومنجزاته الهائلة هو الذي سيشكّل مستقبل الأرض وما يحيط بها من كواكب، فاختراع هذا العالم سوف يؤدي إلى تطوّر هائل وغير مسبوق في مجال الاكتشاف للكون المحيط بنا.

          إن مستقبل البشرية مرتبط بما تم حتى الآن من مكتشفات علمية في كل المجالات، وستؤدي- بالضرورة- إلى إعادة صياغة الحياة على كوكبنا الأرضي، وربما تمتد إلى كواكب أخرى يجري منذ فترة اكتشافها ودراستها تمهيداً لإعدادها لاستيطان بشري قادم، عندما تضيق الأرض بأهلها، فتصبح كوكباً طارداً لجزء من سكانها إلى الكواكب التي يتم تأهيلها حالياً بالعلم المكتشف، وعلينا أن نتخيل البشرية في عقود قادمة، وقد أصبحت تعيش تحت لواء دولة مركزية عالمية قد تساقطت جدران عزلتها القومية والثقافية واللغوية كذلك، وبدأت هجرات الفائض البشري على الأرض إلى الكواكب الأخرى لتعميرها كأوطان جديدة، تماماً كما حدث قبل ثلاثة قرون ماضية تقريباً عندما بدأت حركة الاكتشافات الأوربية للأراضي الجديدة في العالم مثل أمريكا شمالها وجنوبها، وأستراليا وكندا والقطب الشمالي، وعدد من المناطق النائية في العالم، فتمددت البشرية في تلك المناطق، وأقامت مجتمعاتها الجديدة. إن احتمالات العلم لا حدود لها، وإمكانات التقدم البشري لا يقف أمامها عائق، وما علينا نحن العرب والمسلمين إلا أن نثق بهذا العلم المتوافر بين أيدينا، ونتعلم كيف نستخدمه ونشارك به البشرية من حولنا، وما فوز زويل وقبله نجيب محفوظ بجائزتي نوبل العالميتين إلا اعتراف بأن الإنسان العربي لا يقل عن الإنسان الأوربي أو الأمريكي في شيء إذا ما توافرت له وسائل العلم والبحث وضماناته من الحرية والحماية. وهناك العشرات، وربما المئات من العلماء العرب المعاصرين الذين ضاقت بهم سبل البحث العلمي في أوطانهم، فهاجروا إلى حيث توافرت لهم تلك السبل، فأبدعوا واخترعوا وتفوّقوا، كما تفوّق العلماء الآخرون، وساهموا مع غيرهم في مسيرة العلم الظافرة، وما علينا إلا أن نتطلّع إلى المستقبل، ونسعى حثيثاً للحاق به، وليستمر وجودنا قائماً بين الأمم التي سيُكتب لها الحياة فيه.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*