التعليم والثقافة أبعاد جديدة في علاقة غائبة

جزء من العمل الفني (شخوص ٣) للفنان السوري يوسف عبدلكي - ١٩٩١

جزء من العمل الفني (شخوص ٣) للفنان السوري يوسف عبدلكي – ١٩٩١

لم أكن أدري حين نشرت افتتاحية العربي في سبتمبر من عام 1999 تحت عنوان “التعليم والثقافة .. العلاقة الغائبة” إنني أنكأ بذلك جرحا تربويا طال إغلاقه والسكوت عليه. ففور كتابة المقال وحتى الآن أي بعد مرور حوالي ثمانية أشهر مازالت الردود والتعليقات تتوالى على المجلة. ورغم أننا نشرنا جزءا من هذه التعليقات في عددين من أعداد المجلة فإن ما بقي من ردود وما فيها من أفكار مهمة كان كثيراً. وقد حتم هذا علي إعادة فتح هذا الملف مرة أخرى، لسبب أولي أن الأفكار المهمة والحيوية في حياتنا يجب ألا نمر عليها مرور الكرام ولكن يجب تأكيدها والتذكير بها. والسبب الثاني: أن العديد من الردود قد مثلت إضافة حقيقية للصلب الأصلي الفكري، وقد شارك فيها قطاع واسع من مختلف بلداننا العربية مما يدل على أنها قضية تعاني منها جل هذه الدول. كما تنوعت تخصصات المشاركين مما يعني تحقيق مقولة أن القضية التربوية أخطر من أن نتركها للتربويين  وحدهم يقولون فيها رأيهم الفاصل.

ولقد أكدت في المقال السابق أن العملية التعليمية في العالم العربي قد أصبحت تنحو نحو تهميش المحتوى الثقافي، وبالتالي اقصاء القيم الإنسانية العامة وكانت نتيجة ذلك حصيلة مروعة لمخرجات العملية التعليمية تنتج لنا خريجين يبعدون بعداً كاملا عن الفهم الواعي لمجريات الحياة والمجتمع، وقد تسبب ذلك في إفشال كل منجزات مشروعات التنمية وطرائق تخطيطها وإدارتها، لأن الذين يقومون عليها يعانون من التخلف الثقافي والاجتماعي.

باختصار لقد ساهمنا في إنتاج التخلف بدلا من محاولة القضاء عليه. وليس هناك من قرين لفشل العملية التعليمية، قدر انتشار التخلف بهذه الصورة التي نراها من حولنا.

تجربة الشيخ المعمم

ويحضرني هنا مثال من مصر الشقيقة والشريكة الكبرى في ميراثنا العربي بكل ما فيه من تقدم وتخلف فعندما سقطت فريسة للاحتلال البريطاني في يوليو من عام 1882 تم نفي كل زعماء الثورة العرابية إلى أقصى أطراف الأرض، وكان بينهم شيخ معمم ظل هاربا لعدة أعوام ومنفيا لأعوام أخرى هو الشيخ محمد عبده. وعندما عاد الشيخ محمد عبده ليتسلم عمله كشيخ للجامع الأزهر أدرك أن الهزيمة لم تكن في التل الكبير ولا بسبب الأسلحة الإنجليزية الحديثة أو بسبب تخاذل عرابي وقادته، ولكن تكمن في النظام التعليمي داخل الأزهر. فقد تجمدت تلك المؤسسة الدينية العظيمة التي قاومت سطوة المماليك واشتعلت منها شرارة الثورة ضد الحملة الفرنسية، وأصبحت مؤسسة متحجرة غارقة في اجترار علوم الفقه بمعناها التقليدي عاجزة عن فك شرنقة الاتباع والخروج إلى فضاء الاجتهاد. وأدرك أن التحرر يبدأ من إصلاح الأزهر وتحويله إلى مؤسسة عصرية وتحويل الكتاتيب إلى مدارس والعرافين إلى مدرسين عصريين. باختصار أدرك الإمام الكبير أن مكمن التخلف هو في العملية التعليمية، وأن الهزيمة هي حصيلة هذا التخلف. وقد بدأ على أثر ذلك بعملية إصلاحية واسعة المدى، شهدت انتكاسات على يد دنلوب الإنجليزي الذي كان يعمل لحساب احتلال هدفه تكريس هذا التخلف.

دورة التخلف

ومن المؤسف أن التاريخ لا يعيد نفسه إلا في بلادنا، فهو في كل الدنيا نهر متدفق وعندنا بحيرة راكدة متداخلة الدائرة، وها نحن نعاود اكتشاف أن السبب في فشل كل خطط التنمية الوطنية هو أيضا تخلف العملية التعليمية، والسبب في فشل العملية التعليمية، رغم توافر الكوادر والأبنية والنية الطيبة، هو قصور مناهجها واعتمادها على التلقين وبعدها عن المضمون الفكري والثقافي. ولعل الكاتب الأردني موسى الصبيحي يثري هذا الحوار بإضافة البعد الفردي في النظر للعملية التعليمية حين يلاحظ أن معضلة التعليم في عالمنا العربي مرتبطة بالمكانتين الاقتصادية والاجتماعية اللتين يتطلع إليهما الأفراد والمجتمعات، فهم ينظرون إلى التعليم على أنه سبيل لتحقيق المكانة الاجتماعية المرموقة والوضع الاقتصادي المريح وليس على أنه طريق للتقدم المجتمعي بصورة عامة، ورفع مكانة المجتمع والأمة بين غيرها من الأمم والمجتمعات من خلال الإبداع المطلوب.

ويلح خالد البقالي القاسمي وهو تربوي من المغرب على أهمية دور المدرسة في تدعيم فعل القراءة عند الطالب باعتباره متغيرا دائما ومستمرا يتخلل العملية التعليمية بحيث تكون القراءة فعلا يدعو إلى التطور، وبدلا من التلقي السلبي لأي نص من النصوص تكون القراءة تفاعلية بحيث يشارك الطالب في إنتاج النص وبنائه من جديد حسب تصوراته ومكتسباته السابقة. وذلك لعمري واحد من أكبر الطموحات التي نهدف إليها لإننا إذا أنتجنا قارئا فاعلا صار لدينا مواطن فاعل له القدرة على المشاركة الإيجابية في قضايا المجتمع الذي يحيط به وابتكار الوسائل المناسبة لمواجهة معضلاته.

أما الكاتب والمترجم السوري ياسر الفهد فيتحدث عن الأبعاد النفسية للعملية التربوية حين يرى ضرورة أن تتحول المدرسة العربية من النطاق الكمي إلى النطاق النوعي، أو بالأحرى تنتقل من الجمود المعلوماتي الأكاديمي إلى مرحلة تنشئة الطالب تنشئة نفسية سليمة وتعليمه قيم المسئولية والنزاهة والاستقامة والتعاون والصدق. والأهم من ذلك أن تعلمه القيم العصرية التي نعيش في ظلها مثل قيم الديمقراطية والبعد عن التعصب الفكري واحترام الرأي المضاد وتبني منطق الحوار. أي تتحول المدرسة من تلقين المعارف إلى واحة حضارية لمقاومة وتعديل السلوك البشري بكل ما فيه من مساوئ.

وفي امتداد وإضافة لما سبق ينظر الدكتور سمير عميش من الأردن إلى البعد السلوكي أو التنشئة السلوكية التي يرى أنها أكثر خطورة وتأثيرا من التنشئة التعليمية والثقافية، فعلى المدرسة أن تضع برامج خاصة للتعامل مع الأذكياء والقدرات النادرة في الأجيال الصغيرة لرعايتها وحماية نشأتها من الشذوذ والهرب إلى ما لا يحبون ويكرهون على اللجوء إليه.

وينحو الأستاذ عبداللطيف السعيد من سوريا إلى ما يمكن أن نطلق عليه “العملية التعليمية المقارنة” حين يستعرض المناهج الحديثة في الدول التي قطعت شوطا طويلا في هذا المجال. ففي الولايات المتحدة تحرص المدرسة على توفير مختلف نواحي النشاط للطفل وتقديم أنواع الخبرات المختلفة إليه قبل أن تقدم له المعلومات. وتساعد هذه العملية على اكتشاف ميول الطفل في وقت مبكر. وتظهر مدى استعداده نحو نوع معين من الدراسة ومن ثم تقدم له المادة الدراسية بحيث تكون مشكلات المجتمع محور هذه الدراسة. وتدور الحصة الدراسية عادة حول واحدة من هذه المشكلات التي يطرحها المعلم ويمكن أن يترك للطلاب حرية اختيار المشكلة التي يشعرون بحاجتهم إلى بحثها مستعينين في ذلك بعدد من المواد المتشابهة كالفيزياء والعلوم والرياضيات. وتحرص المملكة المتحدة على تنمية حواس تلاميذها وتوسيع مداركهم ببناء المدارس الواسعة المحاطة بالحدائق، كما تحرص على أن تجعلها متماثلة مع العالم الواقعي. أما المدرسة الفرنسية فتحرص على تحقيق اتصال الطالب بالعلوم والتطور المتسارع للمعرفة عن طريق تشجيع روح البحث والاكتشاف. باختصار فإن كل مناهج الدول المتقدمة تشجع على العمل الجماعي وتدفع طلبتها  للتعاون عن طريق اشتراكهم في مشروعات مشتركة تراعي قدرات كل منهم واستعداداته.

أصداء فلسطينية

ويرى معهد كنعنان التربوي الإنمائي في المقالة بعداً آخر يسير في الخط الذي اختطه لنفسه. والمعهد هو تجمع فلسطيني للتربية من أجل التنمية أقيم في مدينة غزة ويؤكد شعاره وهدفه تعزيز حالة من النقاش والحوار الهادئ والموضوعي لقضايا اجتماعية وثقافية وتربوية تهم المجتمع الفلسطيني خاصة والعربي عامة. وقد خصص المعهد إحدى ندواته لمناقشة مسألة العلاقة بين التربية والثقافة، وصور المقال الذي نشر في العربي وأرسله إلى أكثر من 80 شخصا من أكاديميين ومهنيين في حقل التربية. وقد تم الحوار بالفعل وأداره الدكتور وائل القاضي مدير عام التخطيط بوزارة التعليم العالي بالسلطة الفلسطينية.

وقد حاول المنتدى من خلال الحوار أن يجيب عن أسباب افتقاد تلك العلاقة الحيوية بين الثقافة والتربية، فالثقافة هي مصدر التغيير والإبداع والحرية، والعملية التربوية هي المنطلق لتحقيق عملية التغيير وبناء المجتمع وصياغة الإنسان، أي أن كلا منهما يكمل الآخر بالضرورة فلماذا هذه المفارقة؟ ويشير الدكتور القاضي إلى ظاهرة غريبة تعيشها الجامعات الفلسطينية وهي أنها جميعا تغلق أبوابها بعد انتهاء الدوام الرسمي في ساعات العصر، في حين أن جميع جامعات العالم تفتح أبوابها حتى ساعات متأخرة من الليل وتكون كخلية النحل منبراً للعلم والثقافة والحوار الفكري والبحث العلمي. وأجدني أوافق الدكتور القاضي على استهجانه لهذه الظاهرة وأضيف إليها أنها ظاهرة لا تخص الجامعات الفلسطينية وحدها، مع الأسف، ولكنها تشمل الجامعات العربية كلها، وحتى التي لا تغلق أبوابها بعد فترات الدوام فإنها تتحول إلى ساحات خالية بعد الظهر لا تشهد إلا نوعا من النشاط الهامشي والمهني الهش، وعدم الاهتمام بالثقافة هو الذي حرم الجامعة من تلك الحيوية التي كان يجب أن تتمتع بها، وحوّلها إلى نصف جامعة تدور في الأطر الرسمية، وتعاني من خوف مزمن من كل تفكير خلاق، فحتى السلطات الرسمية لا تريد من الجامعة أن تقوم بهذا الدور وهي ترسم لها الحدود القاسية حتى لا تتجاوز دورها التلقيني.

وقد أشار المنتدى إلى بعد جديد يضاف إلى ما سبق من أبعاد في العملية التربوية وهو عن علاقتها بالمقاومة وفعل التحرر، وهو وضع خاص بالثقافة الفلسطينية التي هي بالضرورة ثقافة تحرّرية، ولم يكن بمقدور المعلم الفلسطيني تبرير العملية التربوية إلا بفرض الثقافة، ولكن ما شكل العلاقة بين التعليم والثقافة كما ينبغي أن تكون؟ فهناك أكثر من نوع من الثقافة، هناك ثقافة السلام، وثقافة مقاومة الاحتلال، فكيف يمكن استبدال الثقافتين، كيف نقضي على ثقافة عاشت كل أجيالنا القديمة في ظلالها من أجل ثقافة تبشّر بسلام زائف لم يتم التفاهم حوله حتى الآن؟

اللغة العربية المحاصرة

وبطبيعة الحال، لا يسعني في هذا الحيز الضيق أن أستعرض كل الردود التي وصلت إلى المجلة، وهي كثيرة، وقد استعرضت تلك التي حملت نوعاً من الأفكار الإضافية التي تحتوي على محاور جديدة لم يتطرق إليها المقال الأصلي، كما وصلت إلى المجلة العديد من رسائل ممارسي المهنة، أعني مهنة التربية والتعليم الذين أفنوا سنوات طويلة فيها، والذين يرون على الواقع حصيلة ما نتحدث عنه بشكل نظري.

ولعلني في الختام أضيف بعداً آخر على جانب كبير من الأهمية لم أتطرق إليه في المقال السابق، وهو البعد اللغوي، وأعني به تأثير الفصل بين التعليم والثقافة في لغتنا العربية، وهي أعز ما نملك على المستوى الثقافي، فقد تسبب هذا الفصل في تخلف اللغة العربية وعدم قدرتها على اللحاق بذلك التطور المثير الذي حدث من جراء التراكم المعرفي نتيجة لثورة المعلومات، فقد وجدت اللغة العربية نفسها غريبة في مناهج لم تتعوّد أن تتفاعل معها، ذلك التفاعل الحيّ الخلاّق الذي تتيحه الأرضية الثقافية، وكانت النتيجة هي تراجع اللغة العربية عن اللحاق بالتطور الذي حدث في مصطلحات العديد من العلوم الجديدة، وأصبحت هناك علوم مثل الكمبيوتر – ناهيك عن الطب والهندسة – من المستحيل تقريباً تدريسها باللغة العربية.

واللغة ليست ترفاً، فهي الوعاء الرمزي الذي يحفظ فكر الأمة وحضارتها، وهي مهددة، إذا استمرت الأمور على ما هي عليه من عدم استخدامها لتدريس العلوم الحديثة، أن تنقرض إحدى الوظائف الأساسية لها، وسوف يكون على أي باحث علمي عربي أن يكتب بغير لغته، وسوف يصبح من المتعذر تقريباً نقل العلوم والمعارف إلى اللغة العربية، وبالتالي دخولنا في تيار التحديث والمشاركة الفعّالة في تطور الحضارة العالمي.

ولأن للغة وظيفة اجتماعية أساسية يقوم من خلالها أفراد أي مجتمع بالتواصل مع بعضهم البعض، فسوف يكون من المتعذر أيضاً أن تقوم الجامعات ومراكز البحث العلمي بنقل حصيلة أبحاثها إلى المجتمع الذي يحيط بها، وهي الظاهرة التي أطلقت عليها الباحثة السورية الدكتورة تغريد نصر ظاهرة “المختص الأبكم” وهي تعني بها ذلك النوع من الأكاديميين العاجزين عن بناء جسور معرفية بينهم وبين عامة الناس، وهي ظاهرة تنفرد بها بلادنا العربية، وسوف يساعد عدم تفاعل المجتمع مع علمائه على تدهور المسيرة العلمية وعدم وجود رأي إيجابي يرى ضرورة وجودها.

اللغة والهوية

وافتقاد اللغة يعني افتقاد الهوية، فاكتساب الفرد لثروته اللغوية يعني انتماءه للمخزون الثقافي للأمة التي يعيش فيها، ويعني وجود وسيلة للاتصال والتفاهم والتعايش مع الناس الذين يحيطون به، ولعلنا نلاحظ أن إحدى ظواهر الاستعمار التقليدي وأخطرها كانت محاولة المستعمر فرض لغته أولاً، ومازال العديد من دولنا العربية يعاني من تلك الازدواجية اللغوية، وذلك الصراع بين اللغة الأصلية وتلك اللغة التي تركها المستعمر خلفه، وهو أمر يعتبره البعض تباهياً “غنيمة حرب” كما يعبّر عن ذلك في بعض بلدان المغرب العربي، ولكنه في الحقيقة يسبب ازدواجا في الانتماء، ويضعف الجهود من أجل إنهاء التخلف والتبعية.

ومن الغريب أن مدارسنا الحديثة – بحجة متابعة الحضارة الغربية – قد أصبحت تفتح المجال لنوع من مدارس الازدواجية اللغوية التي تطلق على نفسها في فخر المدارس ثنائية اللغة، معتقدة أنها تستطيع الموازنة بين اللغتين العربية والإنجليزية، بينما هي في الحقيقة تكرّس اللغة العربية لدراسة التاريخ والتربية الوطنية والدين، وتترك تدريس كل صنوف العلوم الأخرى للغة الأجنبية، وكأنها تساهم بذلك في تهميش اللغة العربية وإبعادها عن مجال التعامل مع العلوم الحديثة، وتزرع في عقول النشء من طلابنا أنها لغة لا تصلح لتدريس العلوم.

إن افتقاد اللغة هو وجه آخر من افتقاد البعد الثقافي في العملية التربوية، وهو يضيف إلى ما نواجهه من صعوبات عبئاً كبيراً، فتطور الثقافة مرهون بتطور مفرداتها اللغوية، وتطور هذه المفردات مكانه الطبيعي في قاعات البحث والدرس والتحصيل وليس في أجهزة الإعلام التي تركنا لها المجال، فهبطت باللغة إلى تلك الدرجة الثالثة، وأعني بها تلك العامية التي تتظاهر بأنها فصحى، وهي في الحقيقة لغة غريبة التراكيب والمفردات لا تنتمي للغتنا العربية.

إنني أرجو أن يفتح وضع لغتنا العربية حواراً بين مفكّرينا وكتّابنا لإنقاذ ذلك الوعاء الثمين الذي فيه حصيلة أفكارهم، والذي سوف يحدد تطوّره مكانتهم في هذا العالم، إن كانوا سوف يبقون فعّالين فيه أم خارج إطار دائرته.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*