دولـة ثـنــائـيـة الــقــومــيــة فــي فـلـسـطين الـمحتـلةحــلــم طوباوي أم واقع ثقافي؟

إننا مقصرون في الإصغاء إلى الصوت الفلسطيني الداخلي والمحاصر خلف خطوط عام 48

الدولة مزدوجة القومية هي رفض للفلسفة الصهيونية

 

ستشهد الألفية الثالثة – على الأغلب – إنشاء دولة فلسطينية. إن ما يسمّونه بالانتفاضة الثانية هي في الحقيقة حرب استقلال الفلسطينيين, والعنف الذي ينشره الجيش الإسرائيلي والمستوطنون, والذي لم يسبق له مثيل. ليس إلا التعبير الدموي, والمثير للشفقة, عن حقد استعماري ومنتقم أمام ثورة نعرف نتيجتها المحتومة. وهذه ليست أول مرة في نصف القرن الماضي تعبر قوة محتلة عن هزيمتها برجفة أخيرة من العدوانية المجرمة والتي لا جدوى منها.

الفقرة السابقة تبدو كما لو أنها صادرة عن كاتب عربي قومي فلسطيني الانتماء, مؤمن بهزيمة إسرائيل في نهاية مطاف هذا الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني الدامي, والذي مازال مرشحا للمزيد من الاستمرار, والمزيد من الدماء والتضحيات الجسام. لكن المثير للدهشة والاهتمام هو أن هذه الفقرة إنما هي للكاتب الإسرائــيلي (ميشيل فارشوسكي), رئيس مركز الإعــلام البديل في مدينة القدس, والذي يعمل ويقيم حالياً في فرنسا. وليست كلماته السابقة إلا السطور الأولى لكــتابه المهم الذي صدر في طبعته الفرنسية في عام 2001م, وأعيد نشره بالعربية في دمشق من دار (اسكندرون) في العام نفسه تحت عنوان (إسرائيل – فلسطين, وتحدي ازدواج القومية) وعنوانه بالفرنسية (Israel – Palastine, Le dصfi binational) لم ينتبه كثيرون لهذا الكتاب المهم على صغره النسبي, ويبدو أن عدم الانتباه هذا سوف يتواصل في أعقاب ما حدث من اجتياح إسرائيلي وحشي للأراضي الفلسطينية المحتلة الذي يعيد للذهن الاحتلال الإسرائيلي الأول عام 67م. لقد كتب الشاعر الفلسطيني (مريد البرغوثي) مقالة لافتة عن (البطل) في إشارة للمناضل (مروان البرغوثي) أحد أبرز قادة الانتفاضة الثانية والتي أطلق عليها انتفاضة الأقصى, نشرت في أبريل الماضي, كتب فيها مشيراً إلى شارون وحملته العسكرية الضارية ضد مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية, يقول: (تحت ركام بيوتنا في جنين ونابلس لم يُدفن مستقبلنا فقط, بل مستقبله ومستقبل إسرائيل) إشارة واضحة المغزى ومقنعة المنطق, فهذا العنف العنصري للاجتياح الإسرائيلي أودع في باطن الأرض الفلسطينية بالفعل ثأراً هائلا لن يهدأ إلا باجتثاث مَن ارتكب الجريمة سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى التركيبة المجتمعية أو السياسية.

دفن الأمل

لكن ما دفنته الدبابات الإسرائيلية تحت أنقاض بيوت جنين ونابلس ورام الله لم يقتصر على مستقبل الجلاد وحده, بل يخشى أن تكون هذه الدبابات قد دفنت أيضا زوايا لرؤية مختلفة للصراع كانت تبشّر بشعاع ضوء ما في نهاية نفق مظلم طويل, أو على الأقل زوايا يمكن أن تفتح باباً للنقاش فتكون بمنزلة سؤال جاد يلد أسئلة جادّة على درب إجابة وعرة, والكتاب الذي نشير إليه يدخل ضمن هذا الإطار.

ودون أن ندخل في مسألة الاتفاق أو الاختلاف مع هذا الكتاب وأفكار صاحبه, خاصة ما جاء من أفكار قد تكون غمرها النسيان بعد الاجتياح الشاروني, إلا أنها تكون في حدّها الأدنى سؤالاً جادّاً يستدعي بدوره أسئلة قد تفضي إلى إجابة غير متوقعة لكنها مفيدة, فالكتاب هو محاولة لرؤية ثقافية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

هي رؤية تستند إلى معطى ثقافي من الداخل الإسرائيلي يقترب من معطيات موازية في الجانب الفلسطيني داخل إسرائيل, ولابد من الاعتراف بأننا مقصّرون في الإصغاء لهذا الصوت الفلسطيني الداخلي والمحاصر خلف خطوط العام 48, فهو وليد معاناة نوعية, قاسية وحقيقية, ويمتلك مبررات ما تطرحه, سواء اتفقنا معه أم اختلفنا, إنها رؤية مهمة, أو ربما هي بعض رؤية للعرب الذين بقوا داخل ما سمي بإسرائيل, وهم الفلسطينيون الذين أصبحوا, بالاضطرار, من مواطني إسرائيل أو المقيمين فيها إقامة دائمة, وسمَّتهم بعض الأدبيات غامضة التوجه بـ(العرب الإسرائيليين), وهم يشكّلون 22% من سكان إسرائيل ويتوالدون أكثر مرتين من بقية سكان إسرائيل. وهي نسبة ذات دلالة في تبيان المزق التي تتكون منها الدولة اليهودية التي خطط لها الصهاينة المؤسسون.

فهذه الدولة, إضافة للفلسطينيين في قلبها, تعاني قلقاً من أن 50% من المهاجرين الذين قدموا إليها من الاتحاد السوفييتي السابق (روسيا حاليا) ليسوا من الديانة اليهودية, أو لا يعتبرون أنفسهم يهوداً, وهم يشكلون 10% من عدد السكان, وبزيادة 8% من العمال المهاجرين من جنوب شرق آسيا ومن وسط أوربا وإفريقيا, فإن الدولة التي أرادوا لها أن تكون (يهودية) يتكون 40% من سكانها من غير اليهود. لكن الفئة الأكثر معاناة في هذه الدولة هم العرب الفلسطينيون بالطبع. وهم مجابهون بتحديات عنصرية أكثر من غيرهم, خاصة بعد ظهورهم الجديد والبارز في قلب الكيان الصهيوني, فعبر نضال دامٍ وصبور استطاع الشعب الفلسطيني في إسرائيل (عرب إسرائيل) أن يكون له مكان في الشارع والجامعات وأماكن العمل التي كانت محرمة عليهم, كذلك في فرق كرة القدم من الدرجة الأولى, وفي الثقافة والإعلام, وفي الجامعات, وفي البرلمان (الكنيست). وهذا الظهور لم يقلل من التفرقة والاضطهاد العنصري الممارسين على العرب في إسرائيل, بل زاد حدة واشتعالاً, فثمة أراض عربية تُصادر وتُعطى لليهود كما حدث في منطقة (روحة) التي تقع على مقربة كيلومترات قليلة من مدينة (أم الفحم) ثانية كبرى المدن الفلسطينية في إسرائيل, ولم تتراجع إسرائيل عن مصادرتها إلا بعد عشرة أيام من المظاهرات العنيفة, كما أن مصادرة بطاقات الإقامة للمقدسيين (سكان القدس الفلسطينيين) أمر شائع, وأخيراً المحاكمات الحاقدة لكل من يرفع صوته بالحق العربي في البرلمان الإسرائيلي. (عزمي بشارة والطيبي كأمثلة).

لقد صاحب هذا (الظهور الجديد للفلسطينيين في إسرائيل) – كما يصفه فارشوسكي في كتابه – بروز وجهات نظر جديدة ليس بين الفلسطينيين وحدهم, بل بين بعض الإسرائيليين أيضا, فالفلسطينيون الذين ولدوا بعد النكبة شكلوا جيلا جديدا, أصبح يرفض فتات الميزانية والاضطهاد الإسرائيليين ويصر على المساواة والحق في نمو ثقافته الخاصة, مستندا في ذلك إلى وجود منظمات للحقوق الإنسانية ذات صلات دولية, وإلى بعض (ملامح) القانون في المحكمة العليا الإسرائيلية التي تزعم المساواة بين (المواطنين) إضافة لانتقادات علماء الاجتماع الجدد, والمؤرخين الجدد, وأخيراً السينمائيين الجدد في إسرائيل.

وهم المساواة والعدل

في الوقت ذاته, وفي العام 1992م قامت مجموعة من الحزبيين ذوي التوجه اليساري من العرب واليهود بتقديم ما يسمى (ميثاق المساواة للعمل على برنامج لجعل إسرائيل ديمقراطية حقيقية تساوي بين كل مواطنيها) و(تحويل النظام العرقي إلى جمهورية علمانية وديمقراطية), كان ذلك هو المطلب الأول لهذه المجموعة, أما المطلب الثاني فكان مفهوم الاستقلالية للأقلية العربية وهويتها وثقافتها مع منحها الوسائل لإدارة نواحي حياتها.

في غضون ذلك, نشأ حزب سياسي عربي جديد في إسرائيل هو (حزب التحالف الوطني الديمقراطي) الذي مثله في البرلمان الإسرائيلي الدكتور عزمي بشارة, وتبنى ميثاق المساواة الذي كان أحد صانعيه فكرا ونضالاً. ولقد شرح عزمي بشارة هذا الميثاق في مقال نشر في مجلة (الدراسات الفلسطينية) خريف العام 1999م بقوله (نحن نعي أن المطالبة بدولة المواطنين, كل المواطنين, تعارض الطبيعة الصهيونية لإسرائيل, ومن الواضح أن تبني هذا المشروع السياسي للمساواة بين المواطنين يفرض على عرب إسرائيل محاربة الصهيونية وتدعيم هويتهم الوطنية والثقافية أكثر).

حلم بشارة

بهذا الوضوح أفصح المناضل المفكر أو المفكر المناضل عزمي بشارة عن فهمه لميثاق المساواة, لهذا لم تطق المؤسسة الصهيونية الحاكمة عليه صبرا, وقدمته إلى محاكمة ملفقة هدفها حصاره إن لم يكن القضاء على فعاليته الجسورة,ولهذا كله فإننا نتعرض لمفهوم (ازدواج القومية) الذي تبناه كمطلب عربي داخل إسرائيل عزمي بشارة نفسه, بكل الجدية والاحترام الثقافي, بغض النظر عن النتيجة النهائية للنقاش.

يقول فارشوسكي في كتابه هذا إن هناك ثلاثة نماذج تتناوب في التقدم إلى مفترق الطرق حيث تتوضَّع دولة إسرائيل كدولة (يهودية), أولها النموذج غير الديمقراطي الذي يُبقي قسماً مهما من المواطنين في وضع دوني وظالم وهو يشكل نموذجاً مليئا بالتوتر والتناقضات التي لا يمكن حلها حتى داخل المجموعة الحاكمة نفسها. أما النموذج الثاني فهو يستند إلى الانفصال الكامل بين القومية والدولة, بين العرقية والمواطنين, نموذج الدولة التي هي أمة لكل المواطنين ولا يهمها أصلهم العرقي أو القومي, وهو النموذج الذي أوجدته الثورة الفرنسية التي أرادت إنشاء أمة مؤلفة من مواطنين وذلك بمحو انتمائهم العنصري والعرقي أو الديني وهو النموذج الجمهوري الذي اختاره حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ـ حزب مانديللا ـ في كفاحه ضد التفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا. لكن الضعف الأساسي لهذا النموذج هو ضعف النموذج الجمهوري في الألفية الثالثة الذي لا يأخذ بعين الاعتبار التنوع الأساسي للهوية الجماعية الوطنية أو العرقية للأشخاص الذين من المفترض أن يشكلوا أمّة مواطنين وخاصة أن الدولة ـ في إسرائيل ـ لم تعد تقوم بواجبها كمنظم عادل بين عناصر (الأمة) التي لم تعد بدورها تعني جموع المواطنين. وهنا يبرز النموذج الثالث الذي يتبنّاه فارشوسكي وكتابه, وهو الدولة متعددة الجنسيات والتي تفترض وجود شعوب عديدة ذات هويات جماعية مختلفة معترف بتنوع قوميتها في دولة واحدة وبتركيز لغوي يبرز من هذا النموذج الثالث مشروع (ازدواج القومية) والذي تمخض عنه (مطلب الدولة مزدوجة القومية) والذي ورد لأول مرة كمطلب على لسان عزمي بشارة أحد القادة الرئيسيين لفلسطينيي إسرائيل ـ كما يقول الكاتب ـ لكن ورود المطلب أو المصطلح على لسان قائد ومفكر وطني فلسطيني مشهود له بالشجاعة والإخلاص, لا يمكن أن يُستنتج منه ما استنتجه فارشوسكي, وقد سبق إيراد مفهوم عزمي بشارة التكتيكي والاستراتيجي لطرح مطلب الدولة مزدوجة القومية في مواجهة الجور والعسف الذي يلاقيه مواطنوه الفلسطينيون داخل إسرائيل.

نهاية الصهيونية

دعونا لا نتفق ولا نختلف ـ مؤقتاً ـ مع هذا المصطلح (الدولة مزدوجة القومية) ونختبره في إطاره, إنه بالتأكيد مفهوم مناقض للفلسفة الموجودة في قلب الصهيونية, فالصهيونية فلسفة تقسيم واقصاء ورفض للتعددية ومناداة بأحادية عنصرية واضحة تتمحور أو تتشبث بشعار (دولة واحدة, شعب واحد, أمة واحدة, ثقافة واحدة, أيديولوجيا واحدة) وتدور جميعها حول محور اليهود واليهودية, بمنظور سياسي قبل أن يكون دينياً.

إن مجرد طرح المطلب يشير إلى مأزق حقيقي داخل إسرائيل, فنصف المجتمع تقريباً يرفض عبر الواقع والمصالح والمعاناة أحادية الدولة العنصرية, وهو ما يدعو فارشوسكي الى القول إن الفكرة أقرب إلى الواقع فهي جزء من حيوية موضوعية متصلة بنمو إسرائيل الاقتصادي والاجتماعي وكذلك بآثار العولمة على ثقافتها. فأسوار التجمعات العربية داخل إسرائيل لم تعد مغلقة تماماً كما كان الحال منذ ثلاثة عقود كما يعترف بذلك الكاتب الإسرائيلي نفسه (أصبحت حيفا ويافا والرملة مدناً متعددة الجنسيات والثقافات حيث يختلف الإسرائيليون والروس والعرب, وجنوب تل أبيب هو خليط عرقي).

هنا, وفي اعقاب ما حدث من الاجتياح الشاروني للأرض الفلسطينية ابتداء من مجازر وجرائم جنين وصولاً إلى نفي المحاصرين في كنيسة المهد, تبدو أفكار ميشيل فارشوسكي حلماً طوباويا بالفعل, وهو كابوس إذا أخذ من الجانب الإسرائيلي الذي أفرز ناخبوه نموذج شارون, الذي يطالب بدولة يهودية صرفة من النهر إلى البحر, وقذف الفلسطينيين إلى ما وراء نهر الأردن, وتزداد شعبيته كلما أوغل في الدم الفلسطيني.

ومع ذلك وإذا سلمنا بامكانية الدولة متعددة الجنسيات أو متعددة أو مزدوجة القومية ـ والذي علينا جميعاً وفي مقدمتنا الشعب الفلسطيني أن نصيخ السمع لهذه الدعوة التي سيكون لها شأن في المستقبل ـ نسأل: لماذا لا تكون هذه الدولة هي فلسطين وليست إسرائيل, خاصة أن أرض فلسطين التاريخية أسبق وأشمل من إسرائيل, ثم إن مطلب (الدولة الديمقراطية العلمانية) برز بوضوح وتبلور في فكر منظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1969م.

لقد اختتم الكتاب بفصل عنوانه (إضافة أم مقدمة متأخرة) للكاتب الفلسطيني (إلياس صنبر) الذي عاب على مؤلف الكتاب مسألة (قراءة التاريخ من خلال نتائجه فقط, إلى ما انتهى إليه, وهو خطأ فادح ومشوه لهذا التاريخ) ويتبع (صنبر) تاريخ ظهور فكرة ازدواج القومية فيرجعها الى العشرينيات من القرن الماضي (العشرين) حيث ظهرت بين مجموعة صغيرة من المفكرين اليهود والذين جاءوا إلى فلسطين وبينهم الفيلسوف (مارتان بوبر) و(جود مانيس) مؤسس الجامعة العبرية, أما تحوّل الفكرة إلى مطلب (الدولة مزدوجة القومية) فطبيعي أن يكون في مواجهة الصعوبة التي يلاقيها الفلسطينيون المواطنون في إسرائيل كي ينالوا حقوقاً كاملة, وهم يخوضون منذ سنين طويلة مريرة معركة للمساواة داخل إسرائيل المؤسسة على الشعار العنصري (دولة اليهود فقط) وبهذا يتضح أن فكرة (الدولة مزدوجة القومية) لم تولد من (رأس) د. عزمي بشارة بل من (وضع مجتمعه), هكذا نفهم ونقدّر تبني هذه الفكرة كمطلب للفلسطينيين أو بعض الفلسطينيين داخل إسرائيل, وهو عمل سياسي بقدر ما هو ثقافي يعرّي عبر الحلم بالحدود الدنيا من المساواة زيف ديمقراطية وعنصرية إسرائيل ـ ومن يقف خلفها من مجتمعات ودول الديمقراطيات الغربية ـ ويدفع عنصريتها العرقية ومخاتلاتها الأصولية التوراتية والتلمودية التي تؤكد على تهافت مدنيتها وتحضرها المزعوم

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*