ضــوء فــي نــفــق الــتــعلــيــم الــعــربــي

 

لايشك مراقب أو متعامل مع قطاع التعليم في عالمنا العربي في أن هناك أزمة, أزمة خانقة كالسير في نفق معتم طويل, فهل من ضوء يبشر بإمكانية الخروج من هذا النفق ؟ 

  • مكثنا سنوات عديدة في وادٍ و(هم) في واد آخر, برغم أن تقنيات الحاسوب صارت أكثر إتاحة من منجزات عصر الصناعة 
  • منذ ربع قرن بدأ الحديث عن (الموجة الثالثة) الزاحفة بتسارع, ونحن ندور حول أنفسنا ونلوذ بخنادق فقدت تأهيلها منذ زمن بعيد 
  •  مبادرة جامعة بيرزيت مساهمة مضيئة,لا في حقل التعليم العربي فقط بل في ساحة التحرر الوطني والحضاري العربي 

نهاية الصيف الماضي كنت في أوربا وقت أن اجتاحت الأجزاء الشرقية منها وبعض الغربية الفيضانات المدمرة, وكان هذا الطارئ الطبيعي وغيره سببا إضافيا للتأمل من بُعد في ذواتنا وأحوالنا العربية. والذات التي وجدتني غارقا في تأملها – إضافة إلى الذات الفردية والشخصية – هي ذاتنا الجمعية كعرب. وفي ملابسات هذا شأنها وجدتني وسط أوربا, وفي قلب أحد مواقع المركزية الأوربية المتقدمة (ألمانيا), أتابع بتركيز ولهفة أحداث عالمنا العربي عبر الفضائيات العالمية وبعض العربية بالطبع, واستوقفني منها حدثان جعلاني أشعر بشيء من الانتعاش والتفاؤل, ودوّنت أثناء متابعتي ملاحظات من واقع هذه التغطية لإحساسي بأهمية الحدثين الفائقة في مسارنا المستقبلي كعرب, ومكثت أنتظر مَن يستوقفه أمرهما, خاصة أنهما تواكبا في فترة زمنية واحدة, أو على الأقل في تقارب زمني, لكنني لم أظفر بهذا الربط الذي يبدو أن فيضانات وسط أوربا, وحصار زمجرة الطبيعة في الغربة, جعلاني أستقبل نبأ الحدثين في يوم واحد, فأربط بينهما بتلقائية, وأستعيدهما الآن برغم مرور الشهور, لأنهما – في رأيي – وبمقتضى ما أحسسته, ولاأزال أحسّه, إشارتان مهمتان, بل بالغتا الأهمية إلى الممكن الذي نستطيع اجتراحه للحاق – أو بعض اللحاق – بالآخرين, برغم ظروف التردّي العربي التي نعيشها, والتي أفرزها تاريخ طويل من القهر, وردود أفعال خائبة ترمي بنا في هوّة سحيقة من ماض ولّى, بدلا من أن تدفعنا في اتجاه مستقبل, أخشى أن نخسره أيضا, بعد أن اهتز الحاضر بين أيدينا وأوشك على الضياع.

من بيرزيت إلى دمشق

الحدثان اللذان تابعت تغطيتهما الإعلامية في يوم واحد, ومن مصدرين مختلفين, أولهما: نجاح أساتذة وطلاب جامعة بيرزيت في فلسطين في ابتكار وتوظيف برنامج كمبيوتر أسموه (رتاج), أتاح لهم مواصلة تلقّي دروسهم الجامعية ومراجعة أساتذتهم ومتابعة الأساتذة لهم عبر شبكة (الإنترنت) وبرغم أنف الحصار الإسرائيلي الذي يغلق جامعتهم ويطوق مدنهم وقراهم ويمنع تجوالهم وخروجهم من منازلهم.

أما الحدث الثاني فهو: تدشين (الجامعة الافتراضية السورية) في دمشق, كأول جامعة من نوعها في عالمنا العربي. وهي وإن كانت امتدادا لإرهاصات عربية أخرى في مجال التعليم الإلكتروني سواء فيما يسمى (الجامعات المفتوحة) أو الجامعات التي توفّر لمنتسبيها فرص (التعلم من بعد), إلا أن التكريس للحدث في موطنه كان على مستوى قمة القرار وقمة التقدير, مما يرجح جديّة التوجه في استمرار هذه الجامعة الافتراضية وتطويرها.

لقد جعلني هذان الحدثان (الرقميان) العربيان أتذكر الزوجين الأمريكيين (ألفين وهايدي توفلر), اللذين كانا أكثر المهتمين بالدراسات المستقبلية تبشيراً وتنظيراً للتغيرات المتوقعة مع تصاعد تأثير الثورة العلمية والتكنولوجية في مجالي الاتصالات وتقنية المعلومات تحديداً, وقدّما في ذلك المجال مجموعة من المؤلفات المهمة, منها: (مستهلكو الثقافة) و(صدمة المستقبل) و(الشراكة المتكيّفة) و(تحوّل القوة) و(صياغة حضارة جديدة) و(سياسات الموجة الثالثة) – وهي مؤلفات كان من الضروري أن تترجم وتعمم لقرّاء العربية أسوة ببقية أمم العالم! – وبرغم أن كتابهما (صدمة المستقبل)* كان أشهر مؤلفاتهما جماهيرياً فإنه توقف عند حدود الإشارة إلى مشكلات التكيّف مع التغيرات المستقبلية المتوقعة, بينما جاء كتابهما (الموجة الثالثة) ليبشّر ببزوغ موجة حضارية جديدة هي الموجة الثالثة, حيث – كما يرى المؤلفان – كانت الموجة الأولى هي الموجة الحضارية التي نشرتها الزراعة, والموجة الثانية هي الموجة التي دفعتها الثورة الصناعية.

الموجة الثالثة هي موجة ما بعد الصناعة, أو موجة عصر المعلومات, أو المعلوماتية المؤسسة على إنجازات ثورة الاتصالات وثورة علوم الحاسوب (الكمبيوتر) المتضافرتين معاً. وقد بلور الزوجان توفلر تنظيرهما لهذه (الموجة الثالثة) في كتاب بالعنوان نفسه صدر عام 1980, ثم في كتاب آخر صدر بعد ذلك بنحو خمسة عشر عاما تحت عنوان أكثر ثقة في رؤيتهما المستقبلية وأكثر قطعية فيما يتضح من عنوانه (صياغة حضارة جديدة  – سياسة الموجة الثالثة) الذي صدر عن دار نشر ترنر عام 1995. والملاحظ أن هذا الكتاب قدم له (نيوت جينجريتش) السياسي الأمريكي زعيم الجمهوريين السابق في الكونجرس, والذي وصفه المؤلفان أنفسهما بأنه (محافظ ثوري ومستقبلي) وكان التقديم يحمل عنوانا برجماتيا واضحا هو (دليل القرن الواحد والعشرين لاستخدامه من قبل المواطنين). أما الكتاب فقد وضحت فيه نبرة الثقة في تحقق هذه (الموجة الثالثة) وسياساتها وتأثيراتها. يقول الزوجان توفلر في كتابهما (إن الإنسانية تتهيأ للقيام بقفزة كوانتية إلى الأمام, وهي تواجه الانقلاب الاجتماعي, وسيرورة إعادة التنبيه الخلاّقة, الأكثر حدة, من أيّ زمان آخر, ومن غير أن نعي أمرها تمام الوعي, نجد أنفسنا في وضع من يبني, بدءاً من الصفر, حضارة لا مثيل لها من قبل, وذلك هو معنى الموجة الثالثة).

الموجة الكاسحة

لقد عرفت البشرية, منذ بدء الخليقة حتى الآن, موجتين كبيرتين من التغيير, كل منهما ألغت, إلى حد كبير, ثقافات ومدنيات سابقة, وأحلّت محلها صور حياة لم تكن تدركها الأجيال السابقة. أما الموجة الأولى – أي الثورة الزراعية – فقد امتدت آلافاً من السنين, وأما الموجة الثانية – وأعني بذلك انطلاق الحضارة الصناعية – فقد اقتضت نحوا من ثلاثمائة سنة, وكانت كافية.

أما اليوم, فإن تسارع خطوات التاريخ يبدو أكثر بروزاً, ومن المرجح أن تبرز الموجة الثالثة, وتصبح واقعاً مقرراً, خلال عشرات قليلة من السنين, وعلى ذلك, فإن الذين سيسكنون هذا الكوكب في مثل هذه اللحظة الحرجة سيعيشون ويشهدون الصدمة الحضارية الثالثة.

لقد كُرّس كتاب (سياسة الموجة الثالثة) لمعالجة الاستحقاقات السياسية والاجتماعية والإنتاجية لهذه الموجة الثالثة التي بدأت مسيرتها بالفعل على قدمي ثورة الاتصالات والمعلوماتية, ولقد ذكر نيوت جينجريتش أن أمريكا دخلت الموجة الثالثة يوم 5 يناير 1995 عندما بدأ تشغيل نظام (توماس), الذي يتيح للأفراد إمكان الاتصال الإلكتروني بمكتبة الكونجرس للحصول على ما يودون الاطلاع عليه من وثائقها. وإنني أذكر هذا التاريخ وهذه الملحوظة, أولا لتعلقهما بموضوع حديثنا, وثانيا لتبيان التسارع المذهل الذي تتقدم به هذه الموجة الثالثة لتغمر الكرة الأرضية في واحدة من أظهر تجلياتها وهي (شبكة الإنترنت) التي أصبحت تحتوي العالم – إلا قليلا – بين تقاطعات نسيجها الرقمي. لكن العالم, برغم استهلاكه لمعطيات هذه الشبكة, تفاوتت حصص التحاقه بهذه الموجة الثالثة, وثمة من أغرقته هذه الموجة في سيل من تفاهات الاستهلاك السفيه لما تقدمه شبكة الإنترنت من معلومات. ولقد حدث هذا لدينا نحن العرب, وكنّا نتساءل: متى نكف عن تضييع الفرص السانحة للاستفادة مما يتاح لنا لتطوير أنفسنا, لا للغوص في الضياع!

وكانت فرص الثقافة والتعليم هي أوضح سوانح هذه الشبكة الدولية للمعلومات. لكننا مكثنا سنوات عدة ثمينة في وادٍ, (وهم) في وادٍ آخر, برغم أن رهان التقدم في علوم الحاسوب وتقنية المعلومات يقدم للعالم الثالث فرصة لم تتح له من قبل مع منجزات عصر (الصناعة), فالحصول على أحد هذه المنجزات كان لا يترك فرصة لفقراء الجنوب إلا كمستهلكين, يشترون السيارة والطائرة والسفينة دون أن يتمكنوا من إنتاجها بأيديهم – إلا في أحوال نادرة وفي حدود ما يسمح به الشمال الغني, المبتكر وصاحب براءة الاختراع وخط الإنتاج واحتكار تسويق المنتج – وعندما أراد بلد كبير وعريق من بين بلدان الجنوب, وهو الهند, أن ينتج سيارة تكون (صناعة وطنية) 100% لم يجد أمامه إلا شراء مصنع قديم بكامل خطوط إنتاجه تخلت عنه إحدى الصناعات الأوربية, وهذا يعني أن الراغب في دخول عصر التصنيع من دول الجنوب كان يتحتم عليه أن يبدأ مما ابتدأ به الآخرون!, أما في عصر ما بعد التصنيع, عصر ثورة المعلومات, فقد توافرت فرصة نادرة للبدء من حيث انتهى الآخرون, وكلنا يعرف أن إسهام العالم الثالث في مجال البرمجيات ليس بالقليل أبداً, وغزو المبرمجين الهنود لساحة البرمجة الحاسوبية في الغرب ليس بخاف عنّا, كما أن البرمجيات العربية تشهد قفزات مدهشة إذا ما قورنت برقّة حال العاملين في هذا الحقل الدقيق والظروف العامة التي تعيق بدلاً من أن تساند وتدفع إلى الأمام.

أكثر من ربع قرن

برغم ذلك كله, وبرغم المعاناة المريرة التي يشتكيها حقل التعليم العربي وكل المتعاملين معه, لم تكن هناك التفاتات جادّة ويقظة ومبكّرة لخطورة وجدية وأهمية (السيناريوهات المستقبلية) التي طرحت لتصوّر التطورات الممكنة في حقل التعليم بناء على المعطيات المبكّرة لتطور التقنيات الرقمية ووسائل الاتصالات الحديثة. وقد ذكر الدكتور أحمد شوقي, وهو أحد المهتمين الجادّين بالعلم والثقافة العلمية في عالمنا العربي, أن التوفلرين لم يكونا وحدهما اللذين بشّرا ونظّرا لزحف الموجة الثالثة المتسارع, إذ كان هناك, ومنذ أكثر من ربع قرن, من تحدث عن ذلك مثل (بوشيتن) ومؤلفه (جمهورية التكنولوجيا), وبريجنسكي – مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق – في كتابه: (بين عصرين) الذي تحدث عن الاستراتيجية الأمريكية في العصر التكنوتروني Technotronic (المشتقة من كلمتي تكنولوجي وإلكتروني).

كان هناك حديث مبكر عن الموجة الزاحفة بتسارع, وكانت هناك رؤى واستراتيجيات, فأين كنا نحن العرب بينما حقل التعليم العربي – العالي منه خاصة – كان يضيق بحاله ويعتصر الواقعين في رقعته الضيقة حتى بات الحصول على التعليم الجامعي في عالمنا العربي أشبه بدخول الحرب, وهي حرب بدائية في معظم الأحوال.

إننا لم نكن هناك أبدا في ذلك الوقت, ومما يدعوني إلى ذلك القول, بصراحة وقسوة, هو ما قرأته عن التعليم في موسوعة المستقبليات Encyclopedia of the future الصادرة في نيويورك عن دار سيمون وشوستر ماكملان عام 1996 وشمل توزيعها كثيرا من أركان العالم مثل لندن ومكسيكوستي ونيودلهي وسنغافورة وسيدني وتورنتو, وسأذكر مقتطفات لبعض ما ورد بها تحت عنوان التعليم Education في أكثر من مجال مما اشتملت عليه سيناريوهات الموسوعة, وهي سيناريوهات يتضح, بعد مرور سنوات قليلة على طرحها – أنها لم تكن متخيّلة بل كانت برامج عمل! في باب الاتصالات Telecommunications  (إن ثورة الاتصالات سوف تجعل من التعليم أكثر فاعلية وتأثيرا, وأكثر إتاحة, ومتعة. التعلم سيكون إيجابيا أكثر من مجرد التلقي السلبي, وسيكون الطلبة أكثر ارتياحاً وقادرين على تلقي الكثير من تعليمهم دون أن يغادروا منازلهم, وستتاح فرص جديدة أمام الدارسين الموهوبين, وسيتاح لذوي الاستعداد الخاص إنهاء درجة البكالوريوس خلال ثلاث سنوات فيما يكرسون السنة الرابعة للماجستير. والبرامج التفاعلية التي توظف صور الوثائق التاريخية, والمعارك المجسدة بتقنية الواقع الافتراضي. هذه كلها أمثلة مما يجعل الطلاب شغوفين بالتعلم. كما أن التعليم التفاعلي سيجعل إنجاز التدريبات عملية خلاقة دون الحاجة إلى إملاءات بشرية, وبرامج الذكاء الصناعي (ستفصِّل) برامج تعليمية ملائمة لقدرات كل طالب تسد الثغرات أو نقاط الضعف لديه. وستكون الاتصالات الفضائية من الرخص بمكان مما يتيح لأي إنسان في العالم أن يستفيد بثمار التعليم الإلكتروني).

وفيما يتعلق بالعالم الثالث قالت الموسوعة في أحد سيناريوهاتها: (إن هناك دولا ستكون قادرة على القفز فوق ظهور الدول الأخرى التي ستستمر في التمسك بتقنيات التعليم السلبية, التلقينية).

أما الآثار الجانبية لهذا التعليم الإلكتروني فقد رأت الموسوعة أن: (التعليم من بعد) سوف يذيب اللغات والثقافات مما يمكن أن يؤدي إلى إمبريالية ثقافية (بنص ما جاء بالموسوعة) تطغى على لغة وثقافة هؤلاء الذين لم يجيدوا تطوير لغتهم وثقافتهم).

وفيما يخص تأثير تقنيات التعليم Educational Technologies تقول الموسوعة: (مع ميلاد تقنيات جديدة سيولد تعريف جديد للتعليم, سيكون التعليم عمرياً بلا سقف, ومكانياً بلا حدود, وسيكون زمانه مفتوحاً.

أما درجة الثقة في دور المدارس (درجات علمية, شهادات, وتخصصات) فستكون أقل أهمية بسبب الحاجة إلى التعلم مدى الحياة. وسيكون التعلم الجماعي, والتحليل عابر الثقافات, والوعي العالمي… كل ذلك سيشكل توجهات أساسية في التعليم من بعد. أما التأقلم, والتآزر, والاحترام المتبادل, وآداب الحوار… كل ذلك ستحفزه شبكات التقنية التعليمية في المدارس. وستستمر المدارس لتلبية الحاجة إلى الحوار الاجتماعي, والتربية, والاتصال الشخصي, والدعم الإنساني المتبادل, وسوف توفر التقنيات والأنظمة الذكية الاحتياجات المتباينة للطلاب لمساعدتهم في التأقلم مع الأوضاع التعليمية الجديدة).

جامعة تخترق الحصار

لقد ورد هذا الكلام, في تلك الموسوعة, قبل ما يقارب السنوات السبع نشراً (آخذين بعين الاعتبار أسبقية التفكير على الكتابة وأسبقية الكتابة على تاريخ النشر). وها نحن نرى كل تلك السيناريوهات متحققة بالفعل بجوانبها الإيجابية وأشباحها السلبية. لكن الأغلب أننا مكثنا أطول مما ينبغي بعيدين عن الإيجابيات ومشغولين بالأشباح, بينما أحوالنا التعليمية العربية تصل في معظم أقطارنا إلى حد الكارثة, دون أن ترى في تقنيات التعليم من بُعد باباً واسعاً مفتوحاً للخروج من مآزقنا التعليمية.

وفي ظل هذه الدرجة من الإحباط, إضافة لإحباط الأحوال العربية العامة, تجيء بارقة الأمل من أحلك وأقسى المواقع التي تعاني عسفاً وآلاما مفروضة عليها, وهي فلسطين المحتلة. ولا شك في أن هذه البارقة من الأمل عكست ضياءها على إعلان (الجامعة الافتراضية السورية) المواكبة لها في ظروف مختلفة. وهما معا يضاعفان من الإحساس بالأمل في قدرتنا على أداء لعبة (القفز), لكن ليس القفز فوق ظهور أمم أخرى لنتجاوزها, بل للقفز فوق ظهور يأسنا وعجزنا لنتجاوز هذا اليأس والعجز, ونلتحق ولو بذيل (الموجة الثالثة) في جانب خيِّر من جوانبها كالتعليم والتثقيف.

لقد ظل هذا الإحساس بتقاعسنا عن اللحاق بموجة التعليم الرقمي ماثلا وملتصقا بركام موهبتنا العربية في تفويت الفرص المواتية! برغم بعض الإرهاصات الطيبة والمحاولات والمشاريع التعليمية العربية المتطورة, والتائهة في خضم التعليم السلبي والمتردي والذي يوسع من مساحة الكم غير المفيد على حساب الكيف الجيد والراقي.

لكن وقوفي على نبأي مبادرة جامعة بيرزيت الأهلية, والجامعة الافتراضية السورية الرسمية, جعلني أشعر بتفاؤل مكثف الجرعة.

ففي جامعة بيرزيت وجد الأستاذة والطلاب أنفسهم, وسط الحصار والدمار اللذين تفرضهما إسرائيل على الفلسطينيين في الأرض المحتلة, مهددين بفقدان العام الدراسي من جراء إغلاق الجامعة وقطع الطريق إليها.

ووجد العقل العربي الفلسطيني مخرجاً عبقرياً, لاختراق الحصار واعتلاء الدمار, في تلك الأشتات من أجهزة الكمبيوتر الموصولة بشبكة المعلومات والمتناثرة في قليل من البيوت وكثرة من مقاهي وكافتيريات الإنترنت. وبسرعة أعدوا برنامجاً خاصاً أسموه (رتاج) يحمل المحاضرات إلى الطلاب حيثما كانوا وينقل إلى الأساتذة استفسارات الطلاب حول النقاط التي تستحق النقاش, وتحولت أجهزة الكمبيوتر المتواضعة في بيوت ومقاهي الفلسطينيين إلى جامعة موازية توظف آخر منجزات العصر مما عدّهُ (التوفلران) موجة ثالثة في حضارة البشرية – في التعليم العالي, ومن الأسماء التي التقطتُها للقائمين على هذا المشروع اسم (مروان طرزي) مدير وحدة تقنية المعلومات في جامعة بيرزيت, أذكره لأحييه وأحيي زملاءه الذين لا أعرف أسماءهم, وأقول إن إنجازهم مساهمة عالية ونبيلة, ليس فقط في مجال تحرير التعليم العالي الفلسطيني من ربقة الحصار والعدوان العنصري الإسرائيلي, بل هو مساهمة متقدمة في تحرير العقل التعليمي العربي من الاستكانة لحصار التقليدية والسلبية في حقل التعليم.

أما (الجامعة الافتراضية السورية), وهي وإن كانت امتداداً لمحاولات عربية عديدة في مجال التعليم المفتوح, والتعليم من بُعد, والتعليم الإلكتروني, جميعا, إلا أنها بما التقطتُه من التغطية, تمثل حالة من بلورة الفكرة وتدشين المشروع, ودفعه نحو الاكتمال والتطور, خاصة وثمَّة رعاية رسمية واضحة لهذه الجامعة ممثلة في شخص الرئيس السوري الشاب الدكتور بشار الأسد والمعروف عنه اهتمامه بعالم الكمبيوتر واستخداماته, وهي لمحة من اليقظة الرسمية لتلك الموجة الثالثة التي آمل أن تنتشر بسرعة بين المسئولين العرب, لتواكب سرعة انتشار (الموجة الثالثة), موجة حضارة ثورة المعلومات وثورة الاتصالات معاً.

هل ثمة أمل?

إن هذين الاختراقين العربيين في مجال التعليم, اللذين أتمنى ألا يتوقفا عند حدود الضرورة الآنية, ضرورة الخروج من مأزق وقتي, أو ضرورة الإعلان عن الانتماء إلى لغة العصر, أتمنى أن يتطورا وأن تتطور كل المحاولات والإرهاصات والمشاريع العربية المماثلة في حقل التعليم عن بعد أو التعليم عبر شبكة المعلومات الدولية, وهذا الاختراق أو التوظيف لهذه الإمكانية الحداثية, بل ما بعد الحداثية, بشكل نافع وخيِّر, ليس ترفاً يضع بعض المساحيق الملونة على وجه التعليم العربي الشائخ لتجميله, بل هو ضرورة قصوى لإنقاذ قطاع خطير يخص الحاضر والمستقبل العربيين ويعاني اختناقاً حقيقياً, في مجال التعليم العالي خاصة, وليس أدل على هذا الاختناق من حالة الطوارئ المستمرة في معظم البيوت العربية التي تسحقها هواجس تعليم أبنائها, ثم هذا الإحباط الواسع في جامعات تختنق بالزحام وقلة الحيلة, ثم هذه الجيوش من المتخرجين العرب الذين لا يجدون ما يفعلونه لأن تعليمهم لم يكن مرتبطاً بالحاضر أو بخطط المستقبل أو أنه ظل متخلفاً عن التحدث بلغة العصر والمستقبل على حد سواء.

ثمة أمل تشُعُّ به شرارات صغيرة, عرضنا لاثنتين منها, وآمل أن يتوهج الأفق العربي بالمزيد, لعلنا لا نضيّع المستقبل بعد أن أوشكنا على تضييع الحاضر, ودعونا دائما نبحث عن الأمل بين ركام الدمار الهائل الذي تعيشه مجتمعاتنا على مختلف الأصعدة

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*