فـي مـأزق الـثـقـافـة الـعـربـيـة الـراهـن: تـأجـيـل الآمـال وتـعـجـيـل الـمخـاوف

لا شك في  أننا نعاني أزمة ثقافية عربية متعددة الجوانب, في التعليم, والخطاب الاجتماعي والسياسي, ومحددات الإبداع والإنتاج البشري. وبدلاً من العمل على الخروج من هذه الأزمة, نسرب جهودنا في قنوات جانبية لا تفيد!

  • شعور المثقفين بأزمة الثقافة العربية بدأ قبل أن تظهر أي (أجندة أمريكية) بعقود كثيرة وكتاب طه حسين (مستقبل الثقافة) يشهد على ذلك
  • الإنسانية والعقلانية والحرية والعدالة أربعة شروط قديمة تتجدد لإخراج الثقافة العربية من مأزقها.

 

 

(نحن غيرمطالبين بالتنازل عن أحلامنا لأن الآخرين سرقوها منا أو يغروننا بها).

كانت هذه فقرة من مداخلة الكاتب صلاح عيسى عندما طلب التعقيب على كلمات المتحدثين في الجلسة الأولى من جلسات مؤتمر (الثقافة العربية.. نحو خطاب ثقافي جديد: من تحديات الحاضر إلى آفاق المستقبل), والذي عقد بالقاهرة في الفترة من 1 – 3 يوليو الماضي.

لم تكن هذه الفقرة موجهة تحديدا إلى الروائي الجزائري (الطاهر وطار) الذي رفض دعوة المؤتمر بخطاب مفتوح نُشر على صفحات بعض الجرائد العربية كما نُشر على شبكة الإنترنت, فصلاح عيسى كان قد أسهب في الرد على رسالة الطاهر وطار الرافضة قبل انعقاد المؤتمر, عبرمقال كبير تحت عنوان (خطاب الوسوسة الثقافي) نشرته جريدة (القاهرة) التي يرأس تحريرها.

كانت ملاحظة صلاح عيسى موجهة إلى غيررسالة الطاهر وطار, فقد كان محسوساً في بعض حلقات الوسط الثقافي, بل بين أروقة المؤتمر نفسه, أن هناك  تياراً رافضا أو متخوفا أو متحوطا, يسربل رفضه أو تخوفه أو تحوطه, بأن يكون المؤتمر قد تم التنادي له, وأكمل انعقاده, على خلفية ما سمي (الضغوط الأمريكية) لإعادة صياغة المنطقة.

لقد أعدت قراءة الدعوة الموجهة لي كما وجهت لغيري من المشاركين في هذا المؤتمر, محاولا أن أعثر في ثناياها على ما ينضح بإملاء ما من خارج الحدود العربية, فلم أجد إلا كلمات تنبض بها خواطر معظم المثقفين العرب إذ تقول: (إن الظروف التي تمر بها المنطقة العربية تفرض على المثقفين العرب وأصحاب الفكر والرؤى في الأمة أن يطرحوا من الحوارات وأن يستخرجوا من الرؤى الموضوعية ما يعين على اكتشاف آفاق المستقبل وارتياد عالم مختلف في ظل ظروف بالغة الحساسية والتعقيد, ولما كانت أوضاع الثقافة العربية الحالية والمستقبلية تثير الكثير من الجدل الذي يرتبط بأحداث المنطقة العربية ويتطلع إلى تغيير المفاهيم والأفكار التي لم تعد صالحة, واستحداث منظور جديد لهويتنا الثقافية, مما يؤكد ضرورة أن ينهض المثقفون العرب بأعباء مسئولياتهم, خصوصاً في هذه الظروف الاستثنائية).

هل هي حقيقة?

وبعيداً عن نبض الخواطر, ولمعرفة جذور الدعوة إلى هذا المؤتمر, لعلها تكشف ما يريب – إن كان هناك ما يريب – فقد تبين أن فكرة المؤتمر قد نشأت قبل أكثر من شهرين على انعقاده, وفي أثناء ندوة الاحتفاء بالشاعر (أمل دنقل) لمناسبة مرور عشرين عاماً على وفاته التي دعا لها المجلس الأعلى للثقافة في جمهورية مصر العربية, وفي غضون حوار لبعض المثقفين العرب الكبار – ممن حضروا الندوة – مع وزير الثقافة المصري, طرحت فكرة تنظيم لقاء يضم حشداً من المثقفين العرب من أقطار مختلفة ومشارب ورؤى واجتهادات شتى, (لتدارس الوضع الثقافي العربي الراهن, في ضوء الظروف التي تمر بها المنطقة وصياغة مبادئ خطاب ثقافي جديد). لاقت الفكرة تجاوباً, وتم تشكيل لجنة تحضيرية لوضع ورقة عمل للقاء, ولعل استعراض أسماء لجنة العمل هذه تقطع بعروبة الدافع والتطلع, فهم أصحاب الفكر والثقافة: سيد ياسين ومحمود أمين العالم, وكامل زهيري, ود.مصطفى الفقي, ود.جابر عصفور.

بالطبع لن يقنع البعض بإيراد هذه الملاحظات لاستبعاد المخاوف من إملاءات (الأجندة الأمريكية), وسنفترض – برغم عدم اقتناعنا بذلك – بأن ثمة ضغوطا ولو معنوية, تُمارس بالإيحاء, أو بالتلميح دون التصريح, للسير على خُطى هذه (الأجندة), تطبيقاً لنظرية المؤامرة التي باتت من ثوابت تفكيرنا الراهن, مهما أكثرنا من استباق أحاديثنا العربية بتنويه (رفض نظرية المؤامرة). لنفترض وجود المؤامرة! ولنفترض أنها دعوة حق يُراد بها باطل. وفي مواجهة هذه الافتراضات – التي تدخل في باب الهواجس لا أكثر – سنطرح سؤالاً مضاداً يقول: ألا يمكننا تغيير ما يُراد بنا – نحن العرب – من باطل, إلى ما نريد – نحن العرب – من حق?

بداية الإجابة عن هذا السؤال, تستلزم طرح سؤال آخر: وهل الثقافة العربية في أزمة?! أو مأزق? أو حتى نقص فعالية للتعامل مع المستجدات الطارئة على العالم? ولسنا نعني أبداً بالتحديد الزمني للطارئ والمستجد, ما يتردد كثيراً عما بعد 11 سبتمبر, فالمأزق أو الأزمة, أو غياب الفعالية العربية الثقافية كانت موجودة قبل 11 سبتمبر الذي هو في أحد أوجهه – على الأقل – نوع من انقلاب السحر على الساحر, أو مكر ساحر خفي بساحر ظاهر. مع الإدانة الكاملة لهذه الكارثة الجريمة التي دمرت بنياناً وقتلت بشراً وسببت آلاماً لملايين هالهم الرعب, وبررت لحروب تأكل نيرانها القاتل والمقتول على السواء, وإن بوتائر مختلفة, ونتائج متباينة.

لا علاقة لأزمتنا الثقافية بـ 11 سبتمبر, حتى لو صح أو ثبت أن من نفذوا جنايتها هم نفر من غلاة نشازنا, فغلوهم لم يكتو به الأمريكيون وحدهم – إن صح ما تردد عن تورط هؤلاء الغلاة – بل اكتوينا نحن أيضا بنيران غلوهم التي أججتها مخططات سياسية لم يكن للعرب فيها ناقة أو بعير, إذ كانت صراعات قمم بعيدة في زمن الحرب الباردة, التي كانت باردة على أصحابها الكبار, وجحيماً على أرض الصغار ومتواضعي الإمكانات والحدود.

لننس إذن مسألة 11 سبتمبر هذه ونحن نعالج أمر أزمتنا الثقافية, ولنعد إلى التساؤل عن وجود هذه الأزمة.. هل هي حقيقية?

بلى, إنها واضحة وضوح الشمس التي تشرق على عالمنا العربي كل يوم, من أيامنا هذه, وهو في حال من سيئ إلى أسوأ. ولنكتف للتدليل على ذلك بما يرتبط مباشرة بالثقافة, والخطاب الثقافي, منحين جانبا – إلى حين – ما هو نتيجة بعيدة لتأثيرات هذا الخطاب.

وحتى أؤكد على أن أزمة الثقافة العربية, ومن ثم خطابها, إنما يعودان إلى زمن أبعد بكثير من زمن بروز ما يسمى (الأجندة الأمريكية), سأرجع إلى دراسات ومناقشات مؤتمر شاركت فيه بالعاصمة المصرية في الفترة من 11 – 14 مايو 1997, وعقد تحت مسمى (مستقبل الثقافة العربية), ورعته وزارة الثقافة المصرية نفسها, والمجلس الأعلى للثقافة بمصر, نفسه, تحت عنوان يشي بالقلق المبكر للمثقفين العرب, وهو (مستقبل الثقافة العربية). وكان ذلك قبل المؤتمر الأخير بأكثر من ستة أعوام.. قبل أن تولد (الأجندة الأمريكية) من بين سحب الدخان والغبار في 11 سبتمبر!

فهل من دليل على براءة البحث في أزمتنا الثقافية أوضح من ذلك? نعم هناك المزيد.. فصحيح أن ثمة مؤتمراً عقد منذ ما يزيد على ستة أعوام لبحث (مستقبل الثقافة العربية), لكن هذا المؤتمر نفسه تمتد جذوره أبعد من ذلك, ما يعني أن قلق هذه الثقافة قد أرّق أصحابها منذ وقت مبكر لم تكن أزمة الثقافة فيه بهذه الحدة الظاهرة للعيان. فقد بدأ طه حسين إملاء كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) عام 1937 ونشره في منتصف عام 1938, وهو وإن كان قد خصّ مصر عنواناً وتطبيقاً فهو يعم الثقافة العربية بالتوجه والحلم. وقد أكد طه حسين ذلك في خاتمة كتابه الذي أشار إلى (أهمية التعاون على تنظيم الثقافة وتوحيد برامجها بالقياس إلى الأقطار العربية كافة).

منذ خمسة وستين عاماً لمح الرجل البصير, طه حسين, نُذر أزمة ثقافية عربية مقبلة, وحلم ببرنامج للخروج من براثن هذه الأزمة, حدده بشروط أربعة:

أولا: أن تكون (إنسانية) لتكون طرفاً فاعلاً في ثقافة البشرية, دون تعصب أو تحيّز عرقي, مما يعني أن تكون ثقافة مؤمنة بالحوار والتسامح والتفاعل مع ثقافة الآخر.

ثانيا: أن تكون (عقلانية), أي تحتكم إلى العقل في الفهم والتقدير لأمور الدنيا معاشاً وسياسة, ومن ثم لا تخضع لجمود متعصب أو تسلّط جامد, وهي في ذلك تتخذ من العلم والتفكير العلمي مناطا للتطور الدنيوي في جوانبه المختلفة.

ثالثا: أن تعتمد (الحرية) أساساً لاختيار الفكرة الخلاقة والفعل السياسي والاجتماعي النابذ للاستبداد دون وصاية من بشر على بشر, ودون خوف من الاختلاف أو حتى الخطأ حين الاجتهاد.

رابعا: أن تتمسك بالعدالة شرطا لنشر الثقافة, سواء على أجنحة العدالة الاجتماعية التي لا تحرم عقلا من الثقافة لرقة الحال أو ضيق اليد, والعدالة السياسية التي تحرس هذه العدالة الثقافية بمدّ مظلتها نحو الأطراف البعيدة والجماعات المغمورة, حرصا على حالة ثقافية عامة تستعصي على التخريب من قبل حلقة جامدة أو ناقمة.

الانغلاق على الذات

تلك كانت شروط طه حسين منذ خمسة وستين عاماً لقيام مشروع ثقافي عربي يواجه مخاطر المستقبل, وتأمّل هذه الشروط نفسها يجعلنا نتبين بوضوح ودهشة أن أكثر من ستة عقود مرت والثقافة العربية لم تكتف بمجرد المراوحة في أماكنها أمام شروط طه حسين الأربعة, بل حدث من التردي والنكوص ما لا يمكن نكرانه.

فالتوجه الإنساني للثقافة العربية كعنصر محاورة وتكامل في لوحة الثقافة الإنسانية العامة, ينكفئ الآن نحو الانغلاق على الذات بدعاوى متهافتة مثل الخوف من ذوبان الهوية العربية. بل ذهب هذا الزعم وتلك المخاوف أبعد من الانغلاق على الذات – لدى البعض – إلى اعتبار العالم خارج ذاته خصماً يستوجب المقاومة أو على الأقل: الريبة والحذر, وبالتالي تقلص منطق الحوار والتفاعل مع العالم ثقافيا.

وأدى هذا الانكفاء على الذات إلى توليد تشوهات في الوجدان العربي الخاص جعلت قطاعات ليست بالقليلة تلوذ بأفكار وأزياء وسلوكيات عبرها الزمان بقرون عديدة, وهي ليست من أساسيات الروح العربي أو أركان العقيدة. والأخطر من ذلك, في إطار هذا الانكفاء, أن ملايين من العرب الذين صاروا من مواطني أوربا وأمريكا أو المقيمين بها, بدلاً من أن يتحولوا إلى جسر لنقل التطور العلمي والتقني والمدني إلى بلدانهم العربية الأم, تقوقعوا على ذواتهم ولاذوا بقلاع من الماضي البعيد حالت بينهم وبين حوار الأخذ والعطاء مع المجتمعات الغربية المتطورة التي يعيشون فيها, فصاروا أقليات معزولة ومستغربة في هذه البلدان, ناهيك من أن يكونوا موضع شك واتهام دائمين.

ولقد أدى هذا الموقف المنغلق على الذات, والذات القديمة لا المتجددة, إلى تقليل شأن هذه الأقليات العربية في مجتمعاتها الغربية, وحرمان أوطانهم, وأهلهم في هذه الأوطان, من فرصة النهل من المنجزات الحديثة التي فاتهم زمن ابتكارها وإنجازها مما كان يقرب احتمال ردم الهوّة العلمية والتقنية بين العرب والغرب.

وهي مهمة أنجزها كثير من المغتربين لمصلحة أوطانهم الأم وأهلهم البعيدين, ولسنا في حاجة إلى إلقاء الضوء على حالة الأقليات اليهودية في الغرب وعلاقتها بإسرائيل فهي أوضح ما تكون, لكننا نشير إلى الأقليات الصينية في الغرب والبعثات اليابانية إلى هذا الغرب. ناهيك من الحالة الهندية التي باتت برغم تشابهها القديم معنا اجتماعيا وسكانيا – من المحاورين الفاعلين في حركة التحديث العالمية على المستوى التقني والعلمي, بل الثقافي أيضا.

وبالنسبة للشرط الثاني في حلم طه حسين لمستقبل الثقافة العربية, العقلانية, فحدّث ولا حرج عن الخزعبلات التي تجد لها سوقا رائجة وسط قطاعات تعدّ بعشرات الملايين ممن يشاهدون برامج التنجيم عبر بعض الفضائيات العربية أو يقرأون الكتب الصفراء على أرصفة الشعوذة. وفي المستوى الأعلى والأخطر من ذلك تبرز النزعات الظلامية الجامدة التي تتاجر بالتفسيرات المتزمتة للسيطرة على سوق السياسة والنفوذ الاجتماعي. أما التأثير العام والذي لا يتوقف على مجتمع عربي بعينه أو مساحة زمنية عربية محدودة, فهو غياب التفكير العلمي في أمور الحياة, مما يسهّل على المضللين مهامهم, وييسر للمخربين – في الإطار الحضاري – تخريبهم. ومن ثم رحنا نرى الأداء العشوائي يشيع فيما لا ينبغي أن يشيع فيه ويهدد حاضرنا ومستقبلنا على السواء. نظم تعليمية متخلفة ومعادية للإبداع, وذات محتوى ومناهج نقلية معطلة للتفكير. ومشاريع (استراتيجية) تفتقد أساسيات التصميم العلمي, وقناعات أدبية وفنية تعيق تطور وارتقاء الآداب والفنون وتقصرها على قشور سطحية فجة.

أما الشرط الثالث, الحرية, فهو الصرح الذي اجتمع على هدمه الفرقاء, سواء أصحاب أنظمة الحكم العربية المستبدة, من ناحية, أو أصحاب الرؤى المتزمتة المستبدة, من الناحية الأخرى. فنمو أي مشروع ثقافي  رهين بالاجتهاد, سواء كان ذلك في ساحة ثقافة الدين, أو ثقافة الدنيا. وما قمع حرية التفكير والتعبير إلا جناية على النمو الثقافي لأي أمة, يقعدها عن مواكبة الجديد والتأهب بالجديد لمتغيرات العصر, وهي كثيرة, خاصة في زمن الانفجار المعلوماتي الذي نعيشه. وقد يظن فريق الاستبداد, أن قهر حرية التفكير وتكميم الأفواه هما مما ييسر شئون الحكم والتحكم, وهذا جائز على المدى القصير, لكنه على المدى المتوسط وما هو أبعد من ذلك, يفعل فعل الأورام الخبيثة التي تقتل الجسد الذي تنمو على حسابه, ومن ثم تتجه إلى قتل نفسها, فالحرية الثقافية ليست مجرد ضرورة للحفاظ على حيوية تفكير الأمة وصون اجتهاد المجتهدين فيها, بل هي استراتيجية حكيمة لكل حكم رشيد يريد في أن ينأى بمستقبله عن مآل الاحتضار التاريخي الحتمي لكل استبداد. ولاشك في أن حال الحريات العامة, وحرية التفكير والاجتهاد خاصة, هي مما يؤسى له ويُرثى له في عالمنا العربي. وهو خطر ثقافي كبير, ليس على العقل الثقافي العربي وحده, بل على المجتمعات وأنظمة الحكم أيضا, فالخطر على الثقافة يتحول إلى فعل لا ثقافي أو مُعاد للثقافة, ومتسم بالهمجية التي يمكن أن تشوّه أي تغيير محتمل.

فتح الأبواب للعقول

وعن (العدالة) في مفهوم طه حسين المرتبط برؤيته لمستقبل الثقافة, والتي عبّر عنها بالقول الذي أصبح شائعا (التعلم حق كالماء والهواء), فهي من الأمور التي صارت ملتبسة بعد التدهور الذي حدث في مجال التعليم الحكومي في معظم بقاع العالم العربي, والذي يطيب للبعض – من مواقع اجتماعية واقتصادية ذاتية – أن يعزوه لبرنامج طه حسين في مجانية التعليم والتي باشرها فور تعيينه وزيراً للمعارف منذ عقود بعيدة, إذ يزعمون أن التعليم بهذه (المجانية) أصبح مستباحاً ومثقلاً بالكم على حساب الكيف. لكن الحقيقة الأعمق تقول بأن طه حسين عندما طرح مفهوم العدالة في مشروعه لمستقبل الثقافة, كان يعني الإتاحة وفتح الأبواب أمام كل عقل يستحق التعليم ويستنير بالثقافة. ثم إن إشاعة الثقافة وقيمها في الحياة العربية هي حال من الترقي التي تؤهب للمرونة والفعالية في مواجهة واستلهام كل جديد ومفيد من معطيات التطور الإنساني. فهي دعوة لعدالة ثقافية تشيع النور ولا تكرس للعشوائية والفوضى.

تلك كانت رؤية طه حسين التنبؤية منذ خمسة وستين عاما, قبل أي مخطط أمريكي أو (أجندة) للهيمنة, أو أي من تلك (الهواجس) التي لا ينبغي أن تستبد بنا – حتى وهي حقيقة ما – وتجعلنا نعطل مشروعنا المؤجل للنهضة الموءودة. صحيح أن المخططات موجودة, وصحيح أن 11 سبتمبر أجج بعض هذه المخططات. لكن يظل الأمر مرهونا بإرادتنا في مواجهة إرادات الآخرين. ثم هل ندفن طموحاتنا وتطلعاتنا لمجرد التباسات جعلت الآخر يستعيرها؟

لقد قال الدكتور عبدالسلام المسدي في كلمته بالجلسة الافتتاحية لمؤتمر القاهرة الأخير: (إن نقد الآخر يبدأ من نقد الذات. ولقد دقت ساعة الحقائق الجديدة, فرحلة المثقف العربي لم تكن يوما أشد إضناء مما هي عليه الآن).

نعم إنها رحلة ترتب على المثقفين في هذه المرحلة استحقاقات أكثر إجهاداً وأوفر تضحية, وبالتالي إضناءً أشد… فمن المنطقي, والإنساني, والثقافي, والأمر كذلك, ألا نضيف إلى الإضناء الشديد مزيداً بجعل مخاوفنا التاريخية, وظنوننا المتراكمة, وشكوكنا المزمنة, أداة تعطيل وتأجيل لأحلامنا الثقافية المؤجلة أصلاً, ومن زمن بعيد!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*