عالمنا العربي في مطلع الألفية الثالثة إعـاقــــات مـجـتـمــع الـمـعـرفـــة

  • المشكلة ليست في التراث الفكري العربي, بل في طريقة النظر إليه بعاطفية وهوى وتمجيد مجاني بلا هدف ولا مضمون
  • الخرافة والوعي السحري يمكن تحويلهما عبر الأدب والفن إلى أدوات جمالية.. لكن في النظر إلى ما يتطلب العلم والعقلانية ينبغي نبذهما
  • الأنماط الاقتصادية العربية السائدة عطَّلت قدرات التنافس وقللت من قيمة الاجتهاد والابتكار.. فحدَّت من فورة طلب المعرفة

          أصبحت المعرفة مصدر ثروة ومؤشر قوة, ليس فقط عبر تحويل بعض معطياتها إلى منتجات متطورة, عالية المردود الاقتصادي والاستراتيجي, بل أيضا بكينونة المعرفة ذاتها, كعنصر تنمية إنسانية لأبناء أي أمة تطمح إلى مكان لائق تحت شمس القرن الواحد والعشرين ولأفراد أي مجتمع ينشد الانسجام مع شروط العصر. فما الذي يعوقنا على هذا الدرب؟!

منذ أسابيع قليلة مضت كنت في عمّان, عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية مدعوا من قبل الدكتورة ريما خلف الهنيدي – مساعد الأمين العام للأمم المتحدة, المدير الإقليمي لمكتب الدول العربية – لحضور لحظة إطلاق تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني للعام 2003, وللمشاركة في الندوة التي ناقشت التقرير بتوسع على مدار يوم كامل قبل إعلان إطلاق التقرير, الذي أعده باحثون عرب مستقلون بتكليف من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. وهو حدث ظلت تترقبه جهات وفعاليات عديدة عربيًا وعالميًا, وكثير من المفكرين والمثقفين العرب المهمومين بمعرفة الموقع الذي صرنا فيه, من خلال دراسات معمقة على نسق ما أطلعنا عليه التقرير الأول الذي أدهش الجميع بأرقامه وإحصاءاته وما كشف عنه من شجون عربية مجتمعية وإنسانية طال احتجابها, وما كان ينبغي أن تُحجب, خاصة عمن يتطلعون ويحلمون بواقع عربي أفضل, ومستقبل أكثر ضوءًا وإشراقًا, حاملا بعض الأمل!

لقد كانت الترتيبات الأولى أن يعقد اللقاء (الندوة وإعلان إطلاق التقرير) في رحاب جامعة الدول العربية بالقاهرة, لكن لأسباب يجهلها كثير منا استعيض عن القاهرة بعمّان, تلك العاصمة التي تُعدّ موشرًا طيبًا للمردود الجيد من التنمية الإنسانية, عبر طريق المعرفة تحديدا, فشهدت إطلاق التقرير الثاني للتنمية الإنسانية العربية, وهو تقرير شامل, يغطي معظم مناحي الحياة العربية, ويستحق أكثر من وقفة أمام أكثر من فصل من فصول صفحاته المائة وسبع وسبعين, لكنني لأسباب تتعلق بدور هذه المطبوعة العربية الجامعة (مجلة العربي) في مجال الثقافة تحديدا, أراني مدفوعًا إلى الوقوف, أولاً, أمام القسم الثاني من التقرير المعنون (نحو إقامة مجتمع المعرفة) وبداية عند الفصول الثلاثة (من السادس إلى الثامن) والتي تحاول تفسير تردي حال اكتساب المعرفة في البلدان العربية في الوقت الحالي, عبر تحليل ثلاثة نطاقات من السياق المجتمعي لمنظومة اكتساب المعرفة, وهي:

1 – الثقافة, شاملة التراث, واللغة العربية, والثقافة الشعبية, والتأويلات الدينية المؤثرة (ولا نقول الدين نفسه).

2 – البنية الاجتماعية والاقتصادية القائمة.

3 – التأثيرات السياسية قطريا وإقليميا وعالميا.

وقبل أن نبدأ بالقراءة الناقدة – قدر المستطاع – في نطاقات تلك المنظومة كما أوردها التقرير, ثمة ملاحظة (فنية) على لغة التقرير وتحريره, (وبالمناسبة تنطبق هذه الملاحظة على التقرير الأول كذلك). فهذا التقرير الذي نتطلع إلى أن يكون متاحًا لجمهور واسع من راغبي الاطلاع عليه, سواء عبر نسخه المطبوعة, أو من موقع توافره على شبكة الإنترنت, كان ينبغي أن يعتمد الإيجاز وأكبر قدر من الوضوح, واضعًا في الاعتبار أهمية تفاعل القارئ العام أو المثقف العام معه, ولعله يكون من المناسب طرح نسخة من التقرير للجمهور العام تُيسر الاطلاع عليه, والتفاعل معه, وذلك بالتخلص من المقدمات الأكاديمية الضافية أو إيجازها وتبسيطها, وتسهيل لغة التقرير لغير المتخصصين. لكن يبدو أن واضعي التقرير في التفاتهم إلى أعماق عملهم الصعب هذا, فضلوا ترك مهمة الإضاءة هذه للمناقشات, التي تأكدوا أن التقرير سيثيرها وبشكل واسع عبر الصحافة وأدوات الثقافة والإعلام الجماهيرية, على نحو ما حدث مع التقرير الأول, والذي لا تزال أصداؤه تتردد حتى اليوم. وهذا لا بأس به في إطار جدية التقرير, وإن ظل الإصرار قائما على ضرورة مراعاة الإيجاز والإيضاح للجمهور العربي العام من القراء, وهو جهد يزيد الجدية جَــَّداً, وإن زاد من أعباء العاملين في التقرير, فهذا الجمهور العربي العام هو هدف الخطاب الذي يتضمنه التقرير, وهو – الجمهور – هدف المناداة بضرورة المراجعة, وأداة الإنجاز في التغيير المستهدف.

وتطبيقا, على قدر المتاح, لما أنادي به من الإيجاز والإيضاح, فإنني سأسرد ما جاء في الجزء الذي نعالجه من التقرير, والرأي فيه, أو النقد له, في عجالة تختصر الكثير, لكنها تحاول ألاّ تهمل المهم.

ثقافة الخرافة والوعي السحري!

يرى التقرير أن التراث الفكري العربي يطرح اليوم مشكلات معرفية أساسية, وذلك لاتصاله بالمعرفة ومناقضته لها في آن واحد! فهو متصل بالمعرفة وبالدين وبالعلوم وبالثقافة. وهو مناقض لها لأن النظر فيه لا يجري في أغلب الأحيان وفق مطالب العلم وإنما تكتنفه العاطفة والهوى والرغبة والأماني والتمجيد وإغفال الواقع الحياتي والحقائق الشخصية التي لا تبعث على رضا النفس – أي أن الهوى الأيديولوجي يتلبس جملة أشكال النظر فيه.

إذن المشكلة ليست في التراث الفكري بذاته, بقدر ما هي كامنة في طريقة النظر إليه بعاطفية تُلغي أو تُجمد آفاق الانتقاء أو النقد. لكن هذه العاطفية والهوى وروح التمجيد, إضافة لانبثاقها من تراكمات تاريخية صنعت وجدانا لا بد من مراجعته والنظر فيه, لا تقف وحدها في قفص الاتهام بمجافاة الموضوعية, فثمة اتهامات توجه إلى (العقلية العربية) أيضا, لكنها اتهامات ينبغي ألا تجنح إلى ما ذهب إليه المستشرقون الأوائل أمثال (فيكتور كوزان) و(ليون جوتيه) و(إرنست رينان) من الزعم بأن (العقلية العربية التي توجه التراث العربي عقلية ذات خصائص تجزيئية عاجزة عن التركيب والتجريد, ضاربة في المحسوس الجزئي أو المتخيل, لا تملك الكفايات الضرورية للإبداع الحقيقي). هذا الجنوح مردود عليه بأمثلة عملية ظاهرة, من عرب متميزين, لم يكن (التراث العربي الفكري) سجنًا يعطل ملكات إبداعهم, ولم تكن (العقلية العربية) لديهم محكومة بالغرق في المحسوس الجزئي أو المتخيل, فقد أبدعوا علما وفنًا وعلومًا ومعرفة فلسفية, وصلت بالبعض منهم إلى قمة الإنجاز العالمي, والأسماء كثيرة.

إن العقل العربي, ليس كتلة واحدة صماء, فثمَّة تفاوتات زمانية ومكانية, وهذا العقل لم يكن خالصا في تشكله وتطوره التاريخي لما هو عربي خالص, وإنما خضع لتفاعلات عقلية ونفسية واجتماعية وإنسانية كونية, أخذت منه وأعطت له. وهذا لا يعني أبدا تبرئة هذا العقل من المسئولية, فهو جانٍ بقدر, ومجني عليه بقدر آخر. جانٍ باستسلامه لعواطف الهوى والتمجيد والإيهام السلبي, ومجني عليه من (ثقافة الخرافة) التي لا تزال ممتدة متفاوتة التأثير في البيئات الشعبية (وربما وصلت أخيراً بزحفها إلى قطاعات واسعة من حملة الشهادات الجامعية والعلمية, ومنهم من حصل عليها من جامعات غربية, ومنهم – مع الأسف – من يتربع اليوم على مقاعد التوجيه العلمي والثقافي في كثير من جامعات العالمين العربي والإسلامي) إلى يومنا هذا, كما رصد التقرير. وهي بكل تأكيد مما يستوجب المكافحة والاستئصال, حاضرا ومستقبلا, بكل الوسائل المتاحة.

صحيح أن (ثقافة الخرافة) هذه يمكن أن تُهضم ويتم تمثيلها جماليًا في الإبداع الأدبي والفني, لكن هذا الهضم وذلك التمثيل هما فعل نقدي لاستشراء هذه الثقافة السلبية المعوقة, خاصة فيما يتعلق بتدبير شئون البشر وبناء حاضرهم بشكل صحي يتيح انتقالاً سويًا وكفؤًا من الحاضر إلى المستقبل.

ويتصل بضرورة هذا النقد, بل الاستئصال, لهيمنة ثقافة الخرافة هذه, تحرير العقل العربي منها. إضافة إلى ذلك يتعين التحذير من آفة أخرى معوقة هي ما أسماه الدكتور فهمي جدعان (الوعي السحري), وهو في حقيقة الأمر تغييب للوعي وهجر كامل للأسس العلمية والعقلية التي وجَّهت التجربة الثقافية العربية الكلاسيكية مشيّدة على ما يسمى الثقافة السحرية التي ارتبطت بعلم النجوم والتنجيم والطلسمات وكان لها منزلة متميزة بعد عصر (ابن خلدون) وظلت تعمل, ولا تزال تعمل من خلال أدوات حداثية!! وما بعد حداثية! مثل بعض برامج الفضائيات العربية, والبث الإلكتروني في بعض المواقع باللغة العربية على شبكة الإنترنت! ولا أستثني الصحافة العربية, التي ترى في نشر هذه الثقافة (تلبية لرغبة القرّاء)! وأيضا زيادة التوزيع ومن ثم زيادة الإعلان!! إنها شوائب وطحالب ثقافية وعقلية عالقة في الوجدان الشعبي يصعب استئصالها بقرار أو مرسوم, لكن تحجيم تأثيرها ونقد معطياتها المغلوطة هما من صميم دور المثقفين والثقافة العربية الآن, ولنبدأ بالمدرسة ومناهجها, لنمهد الطريق لثقافة المعرفة والعقل.

تعسُّف التأويل وتجميد اللغة

إدراكا من واضعي التقرير لحالة التربص والتصيد التي يمارسها بكثافة مستثمرو الدين, لأغراض دنيوية خالصة بما يزعمون أو يكسبون, صدَّر التقرير مدخل فقرته المعنونة (الدين والدنيا والعلم) بالتأكيد على الإحلال لمعطيات الدين الإسلامي الحنيف, التي تقود إلى حالة من التوازن المنشود بين الدين والدنيا, أو بين عالم الحياة الدنيوية والحياة الآخرة, والتشديد العظيم على أهمية النظر والاعتبار والتفكُّر والعلم والعقل والتعقل, وعلى ما يتعلق باستخلاف الإنسان في الأرض وضرورة إعماره لها.

بعد ذلك بدأ التقرير رؤيته النقدية للظواهر البشرية والتراكمات التاريخية في الاستخدام غير (الحافز), إذ أظهرت التجربة التاريخية منذ (جنح بعض المسلمين إلى فهم مبدأ (العلم) و(العقل) وسواهما على ضوء (العلم الديني) فكانوا بهذا الحصر والتضييق لمفهوم العلم قوة غير مواتية لتفتح العلوم العقلية والطبيعية). ومن هنا كانت بداية انقطاع العلوم العربية الإسلامية وتوقفها عن النمو والاستمرار فتلقفها الآخرون وواصلوا بها بحوثهم التي أثمرت الحضارة المعاصرة.

إذن, هذه الإعاقة ليست من الدين, بل من الرؤى البشرية المنغلقة في تأويلاتها, والتي عادة ما ترتبط بأمور دنيوية من بينها التنافس السياسي الذي لا براءة ولا شفافية لديه في معظم الأحوال, وعن ذلك يقول التقرير: (وتجدر الإشارة إلى أن ظاهرة برزت في الفضاء الديني الإسلامي في العقود الأخيرة من القرن العشرين تمثلت في تغليب السياسي على الحضاري والإنساني والأخلاقي عند بعض الحركات الدينية, أي أن الغائية السياسية قد باتت عند تلك الحركات هي المقصد الرئيسي).

إنها التفاتة جديرة بالاعتبار والتمعن في مضامينها, وقد تكون تفسيرا للخلط الحادث في علاقة المسلمين بعضهم بالبعض الآخر, وبغيرهم, سواء داخل الفضاءات القطرية, أو عبر القطرية, أو العالمية – فاستخدام ما هو روحي وأخلاقي في خوض صراعات دنيوية بوسائل لا يمكن أن تكون روحية أو أخلاقية هو ما ينبغي أن نتوقف عنده, لنحتفظ للدين بجلال صفاته وتساميه وحرمته, ولنحافظ على الدنيا بما وهبه الله للبشر – مسلمين وغيرهم – من نعمة الحياة وتيسيرات الوجود, دون خلط, ودون تعسُّف. فلعل هذا الانتباه يكون للدنيا أصلح وأنفع, وأقرب إلى الخير الذي يحض عليه صحيح الدين ويباركه خالق البشر والكون.

بعد ذلك انتقل التقرير إلى قضية عوامل التعويق المعرفي التي لحقت باللغة العربية, وهي قضية كبرى في لحظتنا الراهنة تحتاج إلى معالجة متفردة.

لهذا سأشير إلى ما تعلق بها في التقرير إشارات سريعة على أمل الرجوع إليها في مقالة لاحقة, وبما هو أوسع من معطيات التقرير ذاته, فأزمة اللغة العربية ليست مجرد أزمة معوقة للتنمية, بل هي توشك أن تكون دالة على أزمة وجود أمة.

يقول التقرير: (اللغة العربية تواجه اليوم, على أبواب مجتمع المعرفة والمستقبل, تحديات قاسية وأزمة حقيقية: تنظيرًا وتعليمًا ونحوًا, ومعجما, واستخدامًا وتوثيقًا, وإبداعًا, ونقدًا).. وفي صورة أوضح لعمق هذه الأزمة, أو بالأحرى بعض جوانبها, يقودنا التقرير إلى جوانب تطبيقية إذ تتطلب ظاهرة الانفجار المعرفي استحداث وسائل برمجية جديدة مبتكرة لمعالجة النصوص ولزيادة فاعلية النفاذ إلى المعرفة سواء كانت هذه المعرفة مصوغة باللغة العربية أو بلغات أخرى, كما أن مطلب إنتاج الوثيقة الإلكترونية العربية وإكسابها جدارة السريان عبر شبكة الإنترنت يتطلبان من الباحث اللغوي العربي اهتمامًا متعاظمًا, كما أن مشكلات الفصحى تبدأ منذ سنوات التعليم الأولى في المدرسة, حيث يتم تعلّمها كمضمون أو معرفة وهي موضوعة لذاتها, وذلك كله حصيلة المدرسة التقليدية التي تقوم على مبدأ القراءة والترديد والرواية والحفظ, وتجنب الإبداع والاختلاف, وتفضي إلى معرفة جامدة غير قابلة للحياة والتطور.

هذه بعض إشارات لأزمة اللغة العربية, وهي تشكّل إعاقات لا يجادل في حقيقتها أحد يقلقه ضرورة دخولنا في مجتمع المعرفة. ومن المعوقات التي لحقت باللغة العربية, ينتقل التقرير إلى المعوقات التي تشكّلت عبر سوء تمثيل وهضم الثقافة الشعبية التي (تشكّل مستودعًا ضخمًا من الخبرة والاجتهادات الإبداعية, التي أسهمت وتسهم في إثراء الحياة العقلية والوجدانية والسلوكية للناس جميعًا, وباستعراض مكوناتها تُفصح عن كنهها إذ تضم ما يُعبّر عن صوتين: صوت اتباعي يحض على السير فيما هو معهود, وصوت إبداعي يدعو لمساءلة الواقع ويحض على الاستزادة من المعرفة).

ولسنا في حاجة إلى جهد كبير حتى نقتنع ونقنع الآخرين بأهمية الاحتفاء بما هو إبداعي ونكرّس له في هذه الثقافة الشعبية, التي تغدو معوّقة إذا ما تركناها تتفاعل في الأطر السلبية, فالسير الشعبية ليست دعوة إلى العشوائية ولاعقلانية العواطف, بل هي كنز من الطموح للمثال والحلم بما هو صحيح وإنساني. كما أن الحرف التقليدية والمهن القديمة ليست احتفاء بالعتيق والمتخلف, بل هي طريق للنضج العقلي والجسدي بما تتطلبه من حذاقة وتشترطه من مهارة الإتقان لفهمه واستيعابه وتوظيفه في الحياة المعاصرة. أما عن خبرات مثل تتبع آثار البشر والحيوانات, والادلاّء, والعارفين بمنازل النجوم والممارسين للطب الشعبي, فهي ليست خبرات شعوذة بل هي تراكمات معرفة ممتدة عبر الزمن, وفي النظرة النقدية الجادّة ليست تستوجب الإلغاء والاستبعاد, بل تتطلب تحديث المعرفة وتقنينها وإعادة صهرها في الوجدان العام للأمة.

أنماط من الإهدار

لطالما كان النشاط الاقتصادي للبشر, نداءً يُلحّ على تطوير اكتساب المعرفة وتطبيق معطياتها, ولأسباب تتعلق بإنماء هذا الاقتصاد ذاته, لكن كثيرا من الأنشطة الاقتصادية العربية تسيّدت في العقود الأخيرة سارت على غير هدى, فصارت معوقة لاكتساب المعرفة, مثل الاستثمار في الأصول العقارية التفاخرية, ونمط الاقتصاد الريعي, والاستثمار القائم على استقدام الخبرات من الخارج (عمالة وفنيين). هذه الأنشطة خفّضت الإنتاجية ومردودها على المجتمع ككل, ومجتمع المعرفة تحديدًا كان من أكبر الخاسرين, وحجّمت القدرات التنافسية, وقللت من قيمتي الاجتهاد والابتكار, وحدّت من فورة الطلب المحلي للمعرفة التي يحفّزها طموح البحث والتطوير. أما في الاقتصادات الأكبر, فقد تركز الإنتاج الاقتصادي في الأنشطة الأولية, وتكاثرت المشروعات الصغيرة.

ذلك كله أدى إلى إنشاء دائرة مغلقة من الدوران في فلك طارد لمطلب إنماء مجتمع المعرفة, إذ صارت المنطقة العربية – في معظمها – بين أدنى مناطق العالم في نسبة صادرات التقانة العالمية, إن لم تكن معدومة, وقلل غياب المنافسة والتلاحم بين النخب السياسية من جهة, ونُخب الأعمال من جهة أخرى, قلل من توظيف المعرفة في النشاط الاقتصادي العربي الذي تردّى عائده, فعلى خلاف الوهم الشائع بغنى العرب, فإن حجم الناتج الاقتصادي في المنطقة العربية محدود. فمجمل الناتج الاقتصادي العربي, جميعًا, في نهاية القرن العشرين – تبعا لتقرير حديث للأمم المتحدة 2002- هو (604 مليارات دولار) يتعدى بالكاد ناتج دولة أوربية واحدة مثل إسبانيا (559 مليار دولار) ولا يصل إلى ناتج دولة أخرى مثل إيطاليا (1074 مليار دولار).

هذا الوضع المؤسف ترتبت عليه إعاقات تابعة, إذ تعذّر تخصيص موارد كافية لمنظومة اكتساب المعرفة وتوظيفها في النشاط المجتمعي, وتقلّصت فرص الفقراء في انتشال أنفسهم من وهدة الفقر, ما أدى إلى تقليص فرص التعليم لديهم, فما بالنا باستحالة الصعود إلى مجتمع المعرفة?! وفيما يخص انتشار الفقر في المجتمعات العربية يورد التقرير مؤشرات مرعبة, يقطع التقرير بأنها تزيد على المستوى المبلغ عنه في مجمل البلدان العربية. وبالطبع كلما ازداد وانتشر الفقر تكرّست سلبيات مضادة للجميع, من حيث القيم وحوافز النهوض. وفي الجانب النقيض (ظهر توزيع غير عادل وغير حكيم للثروة, واستشرت المنفعة وتقديم الخير الخاص على الخير العام وظهور ملامح فساد اجتماعي وأخلاقي وغياب مواز للنزاهة والمسئولية). كل ذلك كفيل بصرف الحاضر عن أي رؤية للمستقبل, وفي بؤرة ذلك يقع مجتمع المعرفة الذي تضرر ويتضرر أكثر جرّاء الإعاقات الاقتصادية المشار إليها. وعلى سبيل ذكر مثال واحد تقول الإحصاءات إنه بين عامي 1998 و2000 غادر أكثر من 15000 (خمسة عشر ألف) طبيب عربي إلى الخارج, ناهيك عن المبرمجين والعلميين, ومهندسي التقنيات العالية. أي أن الأمر لا يتوقف فقط عند حدود حرمان مجتمع المعرفة العربي من طاقة دعمه البشرية العربية, بل تزويد مجتمعات أخرى (منافسة بطبيعة الحال) بما يقويها معرفيًا, بينما نحن نمعن في التردّي المعرفي.

الإطار الأخير

يقول التقرير في الفصل الثامن, وهو آخر الفصول التي تدرس معوقات قيام مجتمع المعرفة: (إن السياسة هي الإطار المرجعي الأخير, ولعله الأبعد أثرًا في تحليل محددات اكتساب المعرفة في البلدان العربية, فحيوية منظومة المعرفة رهن بشروط سياسية في كل مجتمع, لكن أهمها التمتع بالحرية, وضمانها بحكم القانون وباقي أركان الحكم الصالح, مع قيام نسق الحكم بتهيئة متطلبات نشر المعرفة وإنتاجها بكفاءة, فأين الحال في البلدان العربية من هذا النموذج المثال)?

يسأل التقرير, ونحن نردد معه السؤال, وتتردد تنهّدات طويلة, فالمثال لهذا الإطار المرجعي يكاد يشبه الحلم, وما أكثر الأحلام العربية التي تهفو إلى التحقق, بديلا لواقع عربي يعرفه الجميع, إن العالم الذي يشبهنا ويشاركنا مستوى التنمية تمكن خلال  نصف القرن المنصرم من تحقيق خطوات واسعة في مجال البناء السياسي الديمقراطي ومجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية, والأمثلة كثيرة من حولنا في آسيا وأمريكا الجنوبية, بل وبعض بلدان إفريقيا السوداء, ونحن تراجعنا خلال الفترة نفسها في كل المجالات, سياسيًا تحوّلنا من مشروع دول ديمقراطية في منتصف القرن العشرين إلى دول وأنظمة رصدت في أول قائمة الدول الديكتاتورية الفردية وتراجعت الحرية لصالح حكم فرد واحد لا غيره, والعراق في الخمسين عامًا الماضية خير مثال.

ومع ذلك, فلابأس من إشارات لهذا الواقع العربي الذي يعرفه الجميع, وإليك بعض ملامحه:

  • تفريط فئة واسعة من النخبة العربية المثقفة في استقلالية المجال المعرفي مما أدى إلى هيمنة السياسة عليها.
  • هبوط قطاعات الثقافة والمعرفة والبحث العلمي إلى درجة منخفضة على سلم الأولويات السياسية مما قلّص استثماراتها المادية وهو ما تعكسه النسبة المتدنية لحصة المخصصات للبحث العلمي في البلدان العربية, مقارنة بالعالم الصناعي, بل حتى مقارنة ببعض البلدان النامية.
  • تقديم مقاييس الولاء على معايير الكفاءة والمعرفة, ومن ثم تأخير قيمة حرية التعبير والبحث والإبداع المعرفي.

كان ذلك في الإطار الداخلي لتأثير السياسة على قطاع المعرفة, لكن هناك أطرًا أخرى إقليمية وعالمية, تساهم في التعويق وأهمها: إصرار الدول المصنعة, باعتبارها المنتج الرئيسي للمعرفة على صعيد العالم, على تحويل المعرفة من سلعة عامة إلى سلعة شديدة الخصوصية عبر استحواذ الغرب المصنع على حقوق الملكية الفكرية, حتى في الحالات التي نشأت المعرفة فيها أصلا في بلدان نامية وتم استملاكها من قبل مؤسسات في الغرب المصنع. وذلك مما يهدد فرص البلدان النامية في اكتساب المعرفة ويضع بعض القطاعات الإنتاجية فيها, مثل الدوائيات, في دائرة الخطر. بل الأكثر خطورة ما يحتمل حدوثه في قطاعات المعرفة المباشرة ذاتها, وهو ما لم يأت عليه التقرير, ربما باعتبار ذلك من الاحتمالات المستقبلية السلبية, مثل تآكل المجانية النسبية لولوج شبكة المعلومات الدولية, وتطبيق معايير السوق في البلدان الغنية على الفقراء في المجالات المتيحة للمعرفة بأساليب ونفقات ميسّرة.

لقد كانت تلك مداخلة سريعة – حاولت قدر الطاقة أن تكون مداخلة للحوار – لما جاء في الجزء المخصص لدراسة معوقات قيام مجتمع المعرفة في عالمنا العربي, لكن ذلك يظل بمنزلة محاولة لرصد عثرات الطريق, أما تعبيده, ولو بمخططات أولية, فهو أمر نعود له مع (استراتيجيات النهوض) التي لابد لها من وقفة أخرى

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*