دعـوة الإصـلاح الـعـربـي… هـل يـمـكـن أن تـواجـه الـتـحـديـات؟

الإصلاح العربي مطلب ملح, تريده النخبة وتلح عليه الجماهير, ولكن المشكلة من أين يأتي هذا الإصلاح؟: أن نتمسك بأهداب المبادرة الأمريكية؟ أم نرفضها ونتعامل مع الذات العربية بالجدية الواجبة؟

  • قضت هزيمة 67 على حلم التنمية العربية المستقلة
  • السلبية الكبرى في المبادرة الأمريكية أنها تجاهلت القضية الفلسطينية

 

الرحلة من إحدى عواصم عرب آسيا إلى إحدى عواصم عرب إفريقيا عادة ما تكون شاقّة وغير مباشرة. وباستثناء القاهرة, فلابد للمسافر إلى هذه العواصم من محطة يقضي فيها الليل, وربما استلزم الأمر خط طيران ثانيًا وعاصمة أوربية أخرى, حتى يتمكن من الوصول إلى المحطة التي يسعى إليها! ولاتدل هذه الظاهرة على الاتساع الجغرافي لوطننا العربي, بقدر ما تدل على تلك العلاقة الواهية التي تربط بين أطرافه, وعلينا أن نعترف أنه على الرغم من كل هذه السنوات الطويلة من عمر الدولة الوطنية العربية, وعلى الرغم من كل ما رُفع من شعارات قومية تؤكد حاجتنا إلى الوحدة والالتئمام, فإننا قد عجزنا عن أن نترجم ذلك إلى أدوات اتصال مباشرة وفعّالة تقرب هذا الشتات, وتلملم تلك الأجزاء.

تدافعت هذه الخواطر إلى ذهني وأنا أهبط من طائرة, وأستعد لركوب أخرى في طريقي إلى تونس الخضراء للمشاركة في ندوة (الفكر الإصلاحي والتحديثي العربي في مواجهة التحديات الراهنة). وعلى الرغم من وصولي بعد أكثر من يوم كامل من الطيران والانتظار, فقد ظللت أفكر في أن العديد من أمورنا العربية في حاجة دائما إلى طرف ثان. فنحن في حاجة إلى مناشدة المجتمع الدولي حتى يتدخل لوقف الاعتداءات الإسرائيلية, ونحن في حاجة إلى المساعدات الخارجية لدفع مشروعات التنمية, وفي حاجة إلى الخبرة الأجنبية لحل مشكلاتنا المحلية المستعصية, وفي أمس الحاجة إلى المحاكم الدولية لحل مشكلات الحدود المعلقة فيما بيننا! وحتى في شأن قضية إصلاح العالم العربي التي تُثار حاليًا, فقد كنا في حاجة إلى أن يقوم طرف ثان بطرح – أو بالأحرى بتسريب – خطة (ضغط) شاملة للإصلاح أعدها خبراء عرب ودفع بها البيت الأبيض الأمريكي, حتى تقوم قيامتنا فتصدر التصريحات وتنعقد الندوات من أجل مناقشة هذه القضية.

وفي الحقيقة, وبغض النظر عن وجود خطة أمريكية مقبولة أو مرفوضة, فإن عالمنا العربي كان في أمسّ الحاجة إلى الإصلاح. ولعلي أستعير هنا قول الشاعر والمؤلف المسرحي برتولد بريخت : (لأن الأمور قد أصبحت على ما هي عليه/فإن الأمور لن تبقى على ما هي عليه). فهذا العالم الذي كان مهدًا للحضارات القديمة وموطنا للأديان السماوية التي أنارت الفكر البشري, قد دخل في دوامة من التخلف الروحي والمادي بحيث تراكمت الهزائم على أرضه التي كانت دائمًا مهدًا للانتصارات الروحية والحضارية, لذلك فمن المهم من أجل أبنائه ألا يبقى في هذه الحالة من التخلف الفكري والسياسي.

وهناك إحساس عام لدى الجميع سواء كانوا من النخب الحاكمة أو من المواطنين العاديين أنه قد آن الأوان للبحث عن سبل جديدة تفتح آفاق المشاركة السياسية وتبعث الحياة في أوصال التنمية الاقتصادية, وتعطي مكانة للمرأة التي أقصيت طويلا من المشاركة في الحياة العامة.

ويبدو أن عملية الإصلاح طويلة ومريرة في عالمنا العربي, فروّاد النهضة الأوائل أمثال جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي كان يطلق عليهم (المصلحون), وقد توالت بعدهم أجيال طويلة من المفكرين والكتّاب ورجال الدين رفعوا هذه الراية دون أن يحققوا الكثير من إصلاح  أحوال الأمة. ويعود بعض أسباب فشل هذه الدعاوى الإصلاحية إلى مثاليتها الزائدة وبعدها عن الواقع أحياناً. ولكن الأسباب الأكثر أهمية لهذا الفشل هي أن التحديات التي واجهها عالمنا العربي كانت أكثر من قدرة أي حلول فردية على مواجهتها. ولعل الحاجز الأول ضد بلورة عملية الإصلاح هذه ذلك التفشي المزري للأمية وتخلف التعليم بين أفراد الشعب العربي, الأمر الذي أوجد نوعًا من القطيعة بين هذا الشعب والنخب التي خرجت منه والتي حملت مشاعل التقدم والإصلاح. وحتى بعد أن تطورت برامج التعليم في ظل الدولة الوطنية العربية ظلت هذه البرامج بعيدة عن احتياجات الواقع. كما مثل الفقر وانعدام الإمكانات في العديد من البلدان العربية حاجزًا آخر ضد عملية الإصلاح, ويخضع العالم العربي منذ قرون طويلة إلى نوع من التقسيم الإقطاعي الخفي يجعل تقسيم الثروات فيه غير منطقي, ويأتي بعد ذلك انعدام الديمقراطية في العديد من هذه الأنظمة وإن تظاهرت بعكس ذلك, هذا الانعدام الذي جعل من السلطة حكرًا على فئة معينة ترفض المشاركة وترفض النقد وتتبنى سياسات عرجاء للتنمية لا تؤدي إلا إلى مزيد من الإخفاق.

ولم تأت دعوة الإصلاح التي قامت الولايات المتحدة بإطلاقها نيابة عن مفكري وقادة الأمة وفق دوافع إنسانية محضة, ولكنها اعتمدت في مرتكزاتها الأساسية على الحقائق والأرقام التي أوردها تقريرا التنمية الإنسانية العربية اللذان صدرا في عامي 2002و2003, وأشرف على إعدادهما نخبة من المتخصصين العرب, أي أن المبادرة جاءت بناء على تشخيص عربي لمظاهر الأزمة العربية, وتمثلت في جوهرها في نقص الحريات الذي يعانيه المواطن العربي, الحرية السياسية التي تمنع مشاركته الفعّالة في نظام الحكم وبناء مجتمع معرفي, وتوسيع الفرص الاقتصادية, وإعطاء مجال أوسع للمرأة.

ولكن المبادرة الأمريكية كما تسرّبت – وكما حاول أن يوضحها الرئيس بوش في خطاب له فيما بعد – تجاهلت أهم النقاط التي ركّز عليها تقرير التنمية الإنسانية, وهو التأثير السلبي للصراع العربي – الإسرائيلي على التنمية العربية, بل إن التقرير اعتبر وجود إسرائيل هو السبب الرئيسي لفشل جهود الإصلاح والتنمية, وعلى العكس من ذلك ترى هذه المبادرة – الأمريكية – أن النتيجة الطبيعية للإصلاح العربي يجب أن تكون في اتجاه الصلح مع إسرائيل وإقامة علاقات طبيعية معها, في إطار ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير.

وربما كان هذا الأمر هو أقوى الانتقادات العربية التي وجّهت لهذه المبادرة. فليس السبب – في اعتقادي – أنها جاءت من الخارج, أو أنها وضعت دون التشاور المسبق مع الحكومات العربية, ولكن لأنها تجاهلت بالأساس قضية العرب الكبرى التي شكلّت ملامح السياسة العربية في النصف الأخير من القرن الماضي. كما أن هذه المبادرة جاءت متأخرة كثيرًا بعد أن تدهور الوضع العربي في فلسطين وفي العراق وأصبح العديدون يرون أن أمريكا هي السبب المباشر في كل هذا, فكيف يمكن أن نتقبل نصيحة الإصلاح من الذي كان سببا في الانهيار؟! وحتى لو كانت دعاوى الإصلاح جيدة فكيف نثق في النوايا؟

ولا تأتي هذه المبادرة في ظل ظروف طبيعية, بل تأتي في ظل ظروف بالغة السخونة, وتحت ضغط عوامل التشويه التي لحقت بالعلاقات العربية – الأمريكية. فنحن كعرب مقتنعون بأن السياسة الأمريكية الخارجية منحازة بأكملها لإسرائيل عن وعي وسبق إصرار, وأن الفكر الصهيوني هو الذي يحركها ويملي عليها أولوياتها, كما أن أمريكا تنظر إلينا بالصورة المشوهة نفسها, وترى أننا منطقة يسيطر عليها المتطرفون الذين يعادون كل القيم الغربية. وفي ظل انعدام مناخ الثقة هذا لا يمكن أن يكون هناك مناخ عقلاني يمكننا من مناقشة أي مبادرة مهما كان نوعها.

في تونس, كان مناخ الرفض والقبول والحذر هو الذي يسيطر على جو الندوة, لم يكن هناك مَن يرفض الإصلاح, لأن هذا وقته وتلك لحظته, ولكن كيف يمكن أن يتحقق هذا الإصلاح؟ وفي ظل أيّ نظام عربي؟

في بداية الندوة, وفي كلمته الافتتاحية طرح الدكتور عبدالباقي الهرماسي وزير الثقافة والشباب التونسي أسباب العوائق الداخلية التي تمنع الفكر العربي من الذهاب بعيدًا من أجل البحث والاستقصاء والعجز عن القيام بالفكر النقدي, إلى غلبة الطابع السلفي على تفكير المثقفين العرب. بالرغم من أن هذه السلفية ترتدي في الغالب مصطلحات جديدة, وتغلف نفسها بأطر حديثة, وكذلك الجنوح إلى التفكير الأيديولوجي, وهو التفكير الذي لا يقرأ الواقع وإنما يقرأ تصوّره عن هذا الواقع. والملاحظ أن الدكتور الهرماسي, عالم الاجتماع, لم يركز في كلمته على العوامل الخارجية بقدر ما وجه كل انتقاداته إلى الذات العربية التي لم تستطع أن تصوغ فكرًا عربيًا جديدًا, يتخذ من المنهج النقدي طريقة للتعامل مع الواقع والتراث والمجتمع. وسبيل الخلاص الذي يراه هو البحث عن طريقة للمصالحة بين الواقع والثقافة.

وقد استتبع هذا الافتتاح العديد من المتحدثين تلته المناقشات التي حاولت أن تتبع إرهاصات ظاهرة الإصلاح في تاريخنا الحديث ودعاتها الجدد.

وعلينا أن نعترف أنه دائما ما يواجه العرب أنفسهم بتعبيرات ملتبسة, تحمل أكثر من معنى, وتومئ إلى أكثر من دلالة, وبقدر ما تكون هذه التعبيرات دليلا على أزمة العرب, فإن فهمها ومحاولة وضع تفسير لها هو صورة أخرى من صور الأزمة, فالعرب يدركون منذ أمد طويل – وبالتحديد منذ بداية الصدام مع الاستعمار الغربي -أنهم يعانون حالة مزمنة من حالات التخلف, وأنه لا سبيل لإنقاذهم من أزمتهم الروحية والثقافية هذه إلا بمواجهة هذا التخلف والتعالي عليه فكريا وماديا, وقد اختار العرب لهذه المواجهة تعبيرات كثيرة أشبه بالأقنعة المتعددة كلما خلعنا قناعًا بدا تحته آخر.

النهضة العربية وكبواتها

في البداية, تعلقنا بتعبير (النهضة العربية), والنهضة هنا كانت تعبيرًا عن رغبة حارة في الفكاك من أسر الماضي والتخلص من القيود التي تشدنا إليه, قيود من التقاليد والأعراف المرفوضة, ومن الفهم السيئ والمتخلف لتعاليم الدين, ومن التواكل والسلبية وتحميل مسئولية كل عجزنا على القوى الخارجية. وعلى الرغم من أن معظم البلاد العربية كانت مستعمرة في ذلك الوقت, فقد آمن رواد النهضة الأوائل بأننا في حاجة إلى التجديد الثقافي والتحديث السياسي وبناء تكتل قومي قائم على معايير التاريخ والحلم الواحد والمصير المشترك. ولكن تعبير النهضة العربية انكشف بعد رحيل الاستعمار الخارجي وقيام الحكومات الوطنية التي تصوّرت أن تشديد الرقابة والقبضة الحديدية على حركة الجماهير الخارجة لتوّها من نير الاستعمار, سبيل لبناء الدولة الوطنية التي أنهكها الاستعمار واستنزف خيراتها, فتحوّل الحكم الوطني بذلك ليصبح أشد قوة من حكومات الفترة الاستعمارية, لقد حوّلت هذه السلطات الوطنية الجديدة حلم الدولة الوطنية لدى الجماهير, إلى حلم يبتعد عن التحقيق يوما بعد يوم, وعلى الرغم من كل وعود الاستقلال الخلابة, فقد سقطت هذه الأنظمة تدريجيا فريسة تخبّطها وشكوكها وتحوّلها يومًا بعد يوم إلى سلطة فردية شديدة الشك والفتك, ولم تتمكن هذه الدولة الوطنية التي ورثت السلطة بعد رحيل الاستعمار من قيادة حلم النهضة العربية.

وانتهى تعبير (النهضة العربية) ليحل بدلا منه تعبير آخر, أكثر تواضعا هو (التنمية العربية) الذي كان في ذلك الحين مبشرًا وجميلا وكفيلا بعلاج الأمراض التي عجزت النهضة عن مداواتها. وكانت التنمية تعني النهوض بالمجتمع وإصلاح مرافقه من خلال إشراك الناس في تحمل مسئولية هذه التنمية, والدخول إلى عصر الصناعة, والوصول بالمجتمع المتخلف إلى حافة العصر, وترقية الإنسان العربي ثقافيا وروحيا وتحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس. ولكن سنوات الستينيات التي ساد فيها هذا الشعار انتهت بأكبر هزيمة عسكرية ومعنوية للعرب أمام الغرب,على يد (إسرائيل) أداته ومطرقته في منطقتنا العربية, ودخل العرب على إثر هذه الهزيمة في مرحلة من الانهيار والشك في ذواتهم وقدراتهم, وولدت هذه الهزيمة وما أحدثته من نتائج سياسية واقتصادية وفكرية حالة من التراجع والانكفاء على الداخل المتخلف. ولم تكن هذه الهزيمة حدثًا فجائيًا بقدر ما كانت نتيجة لسنوات من تراكم الأخطاء والابتعاد عن مشاركة الشعوب في تحمل بناء مجتمعاتها وتضخم ظاهرة الخوف والشك في تلك الجماهير.

وكان إعلان موت تعبير (التنمية العربية) فاجعا, فقد حدث على إثر هزيمة عربية لم يفق منها العرب طويلا, ولكننا تمسكنا بأهداب الأمل, وبتعبير جديد هو أيضا أكثر تواضعا مما سبقه هو (تحديث الدولة العربية). وكان الهدف منه هو محاولة لملمة الذات المبعثرة. وبعث الحياة في الإنجازات المتكسرة. ومحاولة تحديثها. كانت الهزيمة قد كشفت عن عمق الهوة التي يعانيها العالم العربي والتي تفصله عن العصر الذي يعيش فيه. فلم تكن الهزيمة عسكرية فقط, ولكنها كانت على المستوى السياسي الذي أظهر مدى تخلف أنظمة الحكم الوطنية, وعلى المستوى المعرفي الذي أظهر مدى التخلف العربي عن فهم التكنولوجيا المعاصرة. لذلك, كان الحديث عن التحديث هو محاولة لردم الهوة أو على الأقل إقامة جسر فوقها ربما يصلنا بهذا العالم.

ولكن الخلافات العربية – العربية, واستشراء الحروب التي شبت داخل البيت الوطني(الحروب الأهلية), أو بين الدول العربية (الغزو والتدخل), كانت كلها أشد شراسة وفتكا مما توقع الكثير. كما أنها كانت كفيلة أيضا بإجهاض مشروع التحديث وتراجع دور الدولة الوطنية لحساب بعث القبيلة التي انطلقت من عقالها, ذلك النظام البدائي ذي النسق المغلق, الذي يتمركز حول الذات والعائلة, وكان من الغريب أن يتراجع العالم العربي في هذه اللحظات, من دول كانت تسعى للوصول إلى شكل الدولة الحديثة في بداية القرن إلى قبائل مختبئة ومترصدة تحت أعلام ملونة وشعارات الأنا المقدسة التي يهدر خلفها الطوفان. وقد كان احتلال الكويت من قبل صدام حسين, ومحاولة محوها من على الخريطة هو أكثر الأمثلة دلالة على ذلك. فروح العشيرة المضطربة داخل هذا النظام هيأ لها أن تلغي دولة عربية لها تاريخها ووجودها الرسمي والدولي ولها نظامها الشرعي على أرض الواقع, لمجرد اتباع نزوة العنف والاستئثار داخل تلك القبيلة ـ النظام.

حالة التشرذم العربي

مات مشروع تحديث الدولة العربية بالسكتة القلبية في صباح يوم 2 أغسطس من عام 1990, ليترك العالم العربي في حالة من التخبط والتمزق لم يسبق لها مثيل, وكان تعبير (تنوير العقل العربي) بمنزلة صيحة أخيرة لمحاولة إضاءة الذهنية العربية من أجل فهم ما حدث, ولماذا حدث؟ والعمل على ألا يحدث مجددًا, ولكنه كان تعبيرا محدودًا ومحاصرًا وسط قوى الإظلام التي أحاطت به من كل جانب.

ومن جانب آخر سعى المواطن العربي الذي يئس من عقم الواقع إلى الهرب بكل كيانه وعقله إلى الماضي البعيد, وكأن مشروع النهضة العربية الذي بدأ في بداية القرن الماضي قد دار في حلقة مفرغة. فهو بدلا من أن يفك الأغلال التي كانت تربطنا بالماضي المتخلف, قد ساهم أكثر في دفعنا إليه والتمسك بهذه الأغلال كأنها طوق النجاة الأخير.

لقد أطبق الظلام العربي على تعبير (تنوير العقل العربي), وهو مازال في المهد, وأصبحنا الآن أسرى تعبير جديد هو الأكثر تواضعا من كل التعبيرات التي سبقته, هو (إصلاح الوضع العربي), لم يبق أمامنا من أمل في مواجهة هذا البيت العربي المتداعي إلا محاولة إصلاحه وترميمه والعودة للسكن فيه من جديد, وهذا يتطلب (أن نصوغ فكرًا عربيًا جديدًا يتخذ من الفكر النقدي منهجًا في التعامل مع الواقع والتراث والمجتمع, فالفكر النقدي هو فكر السؤال والمساءلة والبحث والمغامرة, هو فكر لا يتوانى عن مراجعة ذاته, ينقدها من أجل تجاوزها). وهذا هو التشخيص الذي طرحه الدكتور الهرماسي.

ماذا نبغي من الإصلاح؟

فماذا نبغي من وراء إصلاح الوضع العربي؟ من المؤكد أننا لا نبغي الكثير, لأن هذا التعبير لا يحمل في طياته إلا الحد الأدنى. وسواء جاء من الخارج بدعوة من الولايات المتحدة, أو جاء من الداخل بواسطة النظم الحريصة على مصالحها فهو لا يقدم الكثير.

ماذا يعني إصلاح الوضع العربي في هذه الآونة بالنسبة لنا:

1 – أن يصبح العالم العربي مكانا آمنا للعيش, وألا يتحول إلى أرض طاردة, تدفع مواطنيه في موجات الهجرات المروعة إلى الخارج التي تحملهم دائما إلى حافة الموت.

2 – إنهاء القوانين الاستثنائية, والأحكام الاستثنائية, والمحاكم الاستثنائية, وكل ما يمس حرية الإنسان العربي خارج القوانين الموضوعة, وأن يجد كل إنسان محكمة عادلة تحاكمه, وسجنا ملائما يضمه, وأناسًا يستطيعون تحديد مكانه عندما يغيب دون سابق إنذار.

3 – ترك الفرصة لمنظمات المجتمع المدني حتى تتنفس, لعلها تبرز بعضا من فضائل الإنسان العربي التي طمستها سطوة الأنظمة العربية وشكوكها, لأن محاصرة هذه المنظمات تدفع الأفراد دفعا إلى أقبية العمل السري والعمل على تقويض النظام الذي يخنقهم.

4 – عدم تدخل السلطة في كل أنواع الانتخابات, فحتى الآن لا تترك العديد من الأنظمة العربية أي نوع من الانتخابات – من أول انتخابات الجمعيات التعاونية, مرورًا بالنقابات والأندية الرياضية والأحزاب – دون أن تتدخل فيها, والكثير من الأنظمة لم تكتف بإلغاء انتخابات تداول السلطة فقط, ولكن حتى الاستفتاءات التي تدور حول محور واحد تتدخل فيها أيضا.

5 – أن تنقي السلطة العربية ذاتها قليلا, وأن تطهر نفسها من ذلك الفساد الذي يعشش في أروقتها البيروقراطية, وأن تحاسب نفسها ومسئوليها عن إهدار المال , وأن تكبح جماح تلك السلطة المطلقة التي تتيحها لممثليها.

هل يمكن أن نطلب من النظام العربي أكثر من ذلك؟ هل يمكن أن نطالب تلك المطالبات الخرافية بإقرار الديمقراطية كحق من الحقوق السياسية, وفصل السلطات, وإقرار مبدأ تداول السلطة, والحفاظ على حقوق الإنسان العربي الذي كرمه الله بقوله ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات, وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ؟ وأن يكون الجميع سواسية أمام القانون؟ هل يمكن أن نطالبها بأن تتصدى لتلك المهانات اليومية التي ترتكبها إسرائيل في حقنا وحقها؟! أعتقد أن هذا أكثر بكثير مما يطمح إليه تعبير (إصلاح الوضع العربي).

وأخيرًا أود أن أطرح السؤال التالي: هل تثبت التجربة الطويلة في العمل العربي المشترك أن الإصلاح والتنمية لابد من أن ينطلقا من القطرية أولاً؟ وأن المشترك يأتي في مرحلة لاحقة بعد أن تصل الإصلاحات القطرية – كل حسب ظروفها الموضوعية – إلى مرحلة اللقاء في الفضاء العربي الأوسع؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*