رأس المال الثقافي مفهوم جديد وتناقضات عابرة

  • لعل فوكوياما كان يراجع نفسه وهو يتحدث عن رأس المال الثقافي ورأس المال الاجتماعي, فهو بذلك يتحدث عن إعادة بناء, لا نهاية تاريخ.
  • رأس المال الثقافي مفهوم فكري يؤكد على التأثير المعنوي في المادي والمردود الاقتصادي والاجتماعي للثقافة.
  • فشلت نظرية التحديث التي تحاكي الغرب كسبيل للتقدم, والتبعية التي تعلق ذنب التخلف في أعناقه, وكان لابد من نظرية جديدة, فولد مفهوم رأس المال الثقافي.

 

يدور الحديث كثيرًا حول تأثير الأصالة اليابانية في دفع تقدمها التقني لتتبوأ مركزًا عالميًا متقدمًا, كما يدور حديث مماثل عن قيم العمل لدى الصينيين وتأثير هذه القيم في نهضة النمور الآسيوية ارتكازًا على مبادرات الأقليات الصينية في شرق آسيا, ناهيك عما نشاهده من فعل الأغلبية الصينية في انطلاقة العملاق الصيني نفسه. وهذا كله يترجم حقيقة قديمة تقول بتأثير ما هو معنوي فيما هو مادي, وثمة صياغة حديثة تؤكد ذلك في مصطلح (رأس المال الثقافي), لكن هناك من يريد أن يكرس هذا المفهوم الصحيح في جوهره, للإبقاء على تخلف المتخلفين وتقدم المتقدمين.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

لعل بيت الشعر العربي السابق هو أحد أكثر أبيات الشعر ترديدًا في المجال التربوي, وبغض النظر عن مردود هذا الترديد لدينا, فقد عاد بيت الشعر هذا يتصدر الذاكرة, بعد أن استوقفني تعبير جديد هو (رأس المال الثقافي). ظننت في البدء أن التعبير مجرد صياغة بلاغية عارضة في كتابات بعض المفكرين المشاهير مثل فرنسيس فوكاياما, لكنني عندما طلبت دراسة موسعة عنه, من مصادر مختلفة لعل أقربها هو شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت), وجدت أن التعبير هو مصطلح جديد, يراد به ليس فقط حسم خلاف قديم في قضية نظرية وعملية تتعلق بموضوع التنمية لدى الأمم والشعوب, بل يطمح لفتح وتمهيد طريق جديد للتنمية يتجاوز الطرق القديمة لدى المفكرين الاجتماعيين والسياسيين, ويبشر بعودة جديدة إلى المنابع القديمة وإن بغايات عصرية.

ولأننا – كأمة عربية – نعيش حقيقة في مأزق تنموي, وجدت أن من المناسب عرض هذا المصطلح والوقوف على بعض ما وراءه من دراسات وحوارات متاحة.

بعد الفشل النظري والعملي

مما توافر من مصادر للمعلومات بين يدي, يرجح أن النظريات التي حاولت تفسير مسألة التنمية والتخلف, قد تبلورت مع نهايات القرن العشرين في نظريتين, أولاهما التحديث Modernization, وثانيتهما التبعية Dependency. تتبنى نظرية التحديث القول إن الحل الوحيد لمشكلة تخلف دول العالم الثالث يتلخص في محاكاة وتقليد نموذج التنمية المستخدم في الغرب الرأسمالي, وفي هذا الإطار تنقسم المجتمعات إلى صناعية متقدمة وأخرى زراعية متخلفة.

أما نظرية التبعية فترى أن ظروف تخلف الشرق, لا تنفصل عن تقدم الغرب, بل إن هذا سبب لذاك. فالشرق هو ضحية التفاعل غير المتوازن الذي حدث بين غرب مستعمر, عمد إلى استغلال ثروات الشرق المستضعف, بطريقة أدت إلى تقدم الغرب وتخلف الشرق.

سيطرت كل من هاتين النظريتين على تفسير حالات التخلف والتقدم وتقديم العلاجات والحلول لهما, في فترتين زمنيتين أعقبتا الحرب العالمية الثانية. ثم ما لبثت   النظريتان أن تعرضتا لمعاول الهدم النظري, نتيجة احتواء كل منهما على نقطة ضعف نظرية لا يمكن إغفالها, حيث يعاب على نظرية التحديث ما بها من مركزية غربية واضحة. فهي تعتبر كل ما يدور في الغرب صحيحًا وحقًا, بينما كل ما يدور في الشرق هو باطل وخطأ ينبغي تصحيحه. وبهذا تحتوي على قدر كبير من التحيز.

بينما يعاب على نظرية التبعية ما بها من مركزية شرقية, حيث إنها تفسر ما يحدث لمجتمعات دول العالم الثالث من تخلف بما يحدث خارجها من تقدم المجتمعات الغربية, وتتجنب تفسير ما يحدث داخل المجتمعات الشرقية بأي آليات داخل هذه المجتمعات نفسها.

ولعل نقاط الضعف الواضحة في كل من النظريتين هي التي أدت إلى البحث عن نظرية جديدة لتفسير التنمية وآلياتها, ومن ثم جرت صياغة المفهوم الجديد الذي يعبر عنه مصطلح (رأس المال الثقافي) Cultural Capital, والذي ظهر منتشرًا في كتابات المفكر الأمريكي المثير للجدل فرنسيس فوكوياما, وهو جدل ينبغي ألا يجعلنا نهمل ما يقوله هذا المفكر حتى لو رفضنا مجمل أطروحاته, فحتى في حالات الرفض ينبغي أن نفتش عما وراء ما نرفضه, كما يتعين علينا ألا نستبعد بعض الصواب فيما نجد به الكثير من الخطأ, لسببين:

أولهما أن فوكوياما مفكر ليس بالقليل ولا بالصغير, وثانيهما البعد المؤسسي لدى المفكرين الأمريكيين والذي يعني أن ما نقرأه كنظريات – أحيانًا – ليس إلا سيناريوهات مستقبلية يتوقف تحققها على ميزان قوى كل الأطراف وإرادة كل طرف في الرفض أو القبول. ثم لماذا نستبعد أن يتجه هذا المفكر أو ذاك, في يوم من الأيام, لمراجعة نفسه بناء على ما يجد من أمور وملاحظات يراكمها الزمن ويضطره للمراجعة?!

تحولات وتحيزات

بات مصطلح رأس المال الثقافي, منتشرًا بشكل لافت في كتابات فرنسيس فوكوياما بعد صدور كتابه الأشهر المثير للجدل (نهاية التاريخ) عام 1989, وذلك بدءًا من كتابه الصادر عام 1995, تحت عنوان (الثقة: دور الثقافة والفضائل الاجتماعية في تحقيق الازدهار الاقتصادي)

وقد أتبع ذلك بمقالة قصيرة قدمها عام 1999 إلى صندوق النقد الدولي عن مهمة الجيل الثاني في إصلاح الاقتصاديات النامية, ثم ما لبث أن وسع هذه المقالة في العام نفسه لتصبح كتابًا يتجاوز الثلاثمائة صفحة تحت عنوان: (الانفراط الكبير: الطبيعة البشرية وإعادة بناء النظام الاجتماعي). The Great Disruption: Human Nature and the Reconstitution of Social Oredr.

فمن الواضح من عنوان هذا الكتاب أن فوكوياما صار يتحدث عن (إعادة بناء) بدلاً من (انتهاء التاريخ).

إلا أننا نجد جذور التفكير في رأس المال الثقافي واضحة قبل فوكوياما بكثير, وذلك لدى قطب الاجتماع الغربي (ماكس فيبر) منذ عام 1930.

كما أن هذا المصطلح بدأ ينتشر أيضًا في الأدبيات العربية, وذلك مع ظهور التقرير العربي للتنمية البشرية مع بداية القرن الجديد.

لقد أصدر الباحث لورانس هاريسون, الذي عمل مديرًا لوكالة المعونة الأمريكية في المجتمعات النامية بأمريكا اللاتينية كتابًا بعنوان: (من يزدهر? كيف تؤدي القيم الثقافية إلى النجاح الاقتصادي والسياسي), وفي هذا الكتاب يحدد هاريسون مكونات رأس المال الثقافي في:

1 – قيمة الثقة بين أفراد المجتمع وتأثيرها على تسهيل المعاملات, وطبقًا لها تنقسم المجتمعات إلى مرنة وشفافة في المعاملات أو متخابثة وسرية في المعاملات.

2 – قيمة حب العمل أو الكسل. وطبقًا لها تنقسم المجتمعات إلى محبة للعمل (عاملة) أو محبة للكسل (متكاسلة).

3 – قيم الثواب والعقاب ودرجة تشجيعها للابتكار وروح المبادرة. وطبقًا لها تنقسم المجتمعات إلى راغبة في الابتكار ونافرة منه.

4 – قيمة حب المال والادخار والربحية. وطبقًا لها تنقسم المجتمعات إلى مجتمعات جاذبة للمال وأخرى طاردة له.

وفي هذا الصدد يذكر الكاتب أن أغلب سكان المناطق الحارة يقل لديهم تأثير قيمة حب العمل, ويسود الكسل نتيجة رغبة الأفراد في الهروب من الشمس الحارقة سعيًا للاسترخاء في المناطق الظليلة, وهو دافع بيولوجي يساهم المناخ فيه ويؤدي إلى اتساع الشعيرات الدموية للأفراد, بما يجعلهم عرضة للإجهاد والإرهاق نتيجة أقل مجهود يبذلونه, وهو ما يتحول تدريجيًا إلى ثقافة اجتماعية, تفضل العمل داخل المكاتب المكيفة مثلاً على العمل اليدوي في العراء.

ويذكر هاريسون المثال النقيض لذلك, وهو ما يظهر من انتشار قيمة حب العمل لدى سكان المناطق الباردة. فذلك يجد تفسيره البيولوجي في أن الكسل وعدم الحركة يؤديان إلى شعور الأفراد بمزيد من البرودة, مما يدفع الأفراد للعمل رغبة في الشعور بالدفء, وبذلك يتسامى الهروب البيولوجي من البرد ليصبح قيمة اجتماعية تحض على العمل لما فيها من فوائد للفرد.

وهنا يمكننا أن نمسك بمغالطة واضحة تكشف عن تحيزات هاريسون غير الموضوعية, فمنطقة شرق آسيا حارة ورطبة ومع ذلك قيم العمل فيها منجزة, بل تفوق مثيلتها في بعض الدول باردة الطقس. ولقد شابت هذه التحيزات العرقية نتائج الاجتهادات التي أنجزها كثير من الغربيين, وواضح أن هاريسون لم يتخلص من تحيزاته الثقافية ضد الشعوب النامية, فصحيح أنه يكتب عن رأس المال الثقافي, لكنه يفعل ذلك دون أن تفارقه روح نظرية التحديث ذات النزوع الغربي, مما لا يخفي تبرمه وضيقه من الأوضاع السائدة في الدول النامية ورؤيته المتجمدة على قناعة أن هذه الأوضاع أبدية, ولا سبيل لتغييرها, وكأنه يقول بحتمية ثقافية لا حراك فيها ولا تجديد, وهو أمر مناف لطبيعة الثقافة ذاتها, والتي يتوالد فيها الجديد من القديم بشكل لا يتوقف. ومن هنا وجب التصدي الفكري لتكريس تلك (الحتمية الثقافية), ففي هذه الحتمية نشتم رائحة استبعاد لفقراء العالم من استثمار (رأس المال الثقافي) المنقذ لهم من التخلف.

ثنائيات القيم الثقافية

لم يتوقف الإسهام البحثي في مسألة رأس المال الثقافي على الغربيين وحدهم, فالكاتب الأرجنتيني ماريانو جروندونا, درس حالة التنمية في بلاده, وأرجع سبب تعثرها إلى العوامل الثقافية أساسًا, وذلك في دراسته غير المنشورة بعنوان: (مثلث التنمية).

وفي هذه الدراسة يقابل جروندونا بين ست ثنائيات ثقافية مختلفة تميز بين الشعوب المتقدمة والنامية كما يلي:

– الموقف من الثروة: هل يتم صناعتها أم وراثتها?

– الموقف من المنافسة: هل تميل إلى التسابق أم إلى التحاسد?

– الموقف من الاستهلاك: هل يتوجه نحو الأجيال اللاحقة أم نحو الأجيال الحالية?

– الموقف من العمل: هل يعتبر متعة أم مشقة?

– الموقف من الوقت: هل هو زمني واقعي أم نفسي تخيلي?

– الموقف من الحياة: هل نصنعها أم تصنعنا?

ومن الواضح أن الكاتب الأرجنتيني لم يبتعد كثيرًا عن جيرانه في الشمال, إذ انساق بشكل ما إلى القول بالحتمية الثقافية, فالموقف الأول في كل ثنائية مما سبق من ثنائياته, رآه الموقف الثقافي للشعوب المتقدمة, بينما الموقف الثاني هو الموقف الثقافي للشعوب النامية أو المتخلفة, وهي رؤية مردود عليها بنماذج من الدول النامية, أو قطاعات فيها – على الأقل – مثلما في حالة الهند التي تتبوأ مكانة مرموقة على سلم التقدم العالمي في بعض القطاعات كبرمجيات الكمبيوتر.

إن الثنائيات الصارمة أمر يجافي الحقيقة الواقعية دائمًا, فالطيف اللوني في كل شيء لا يمكن أن يقتصر على الأبيض والأسود, ناهيك عن بقية الألوان والدرجات اللونية, لكن يبدو وكأن جميع المناظرات بصدد عملية التنمية تصل بنا إلى محطة فكرية تتقلص فيها الاختيارات وتتجمد, وبدلاً من أن نمضي قدمًا نجد أنفسنا نضيّع الوقت والجهد في اشتباكات جدلية ونقاشات بيزنطية, وكأننا نراوح في مكاننا منذ البداية وإلى مالا نهاية.

وقد ظهرت تجليّات هذه المحطة الفكرية الأخيرة عبر مختلف عصور الفكر البشري. فليس أبعدها مثلاً ما برز في جمهورية أفلاطون, الذي قسم المجتمع الفاضل إلى فئات متمايزة, يقوم كل منها بوظيفة اجتماعية محددة, دون أن يسمح لأي فئة بأن تنتقل أو ترتقي لمستوى أعلى أو أدنى مما هي عليه بالفعل. وبهذا رفض أفلاطون بشكل متعسّف ما يطلق عليه علماء الاجتماع المعاصرون إمكان الحراك الاجتماعي.

وبهذا يعتبر أفلاطون – على عكس ما يظن كثيرون – بادئ تقليد الجمود الاجتماعي والثقافي, الذي يقضي بأن الحتمية الثقافية والاجتماعية تحدد موقع كل فئة من فئات المجتمع ومكانتها وصلاحياتها, كأنما ذلك من طبيعة الأشياء. ويكمن صلاح المجتمعات في الدفاع عن هذه الحتمية, بينما يكمن فساد المجتمعات في محاولة كسر هذه الحتمية, وهذا تحت الادّعاء بأن ذلك يعتبر تعديًا وانتهاكًا لقوانين الطبيعة الحتمية. ويمكننا أن نمد هذه الفكرة إلى مسارها الطبيعي, فنصل إلى التمييز بين المجتمعات والشعوب, وليس فقط الفئات والأفراد. وهذا هو ما توسّع فيه بقية المفكرين بعد أفلاطون.

الحتمية وضرورة نقدها

لقد جاءت الحتمية الجينية أخيرًا لتمثل شكلاً عصريًا من أشكال الحتمية, فيمكن طبقًا لهذا النوع المتأخر من الحتمية صياغة نظريات تقول بتفوّق بعض الأجناس على بعضها, استنادًا لاختلافها في العناصر الوراثية والجينية. مثلما حدث في ألمانيا هتلر من القول بتفوّق الجنس الأبيض الآري على ما عداه من الأجناس الأخرى, ويمكن طبقًا لها أيضًا صياغة نظريات عن حتمية تدني الزنوج والملونين, استنادًا لأي متغير جيني مميز لديهم. وكل من هاتين النظريتين يمكن استخدامها لتبرر الاستغلال القائم, الذي تفرضه بعض الشعوب المتقدمة على الشعوب النامية.

وقد لخص ستيفن روز في كتابه (ليس في جيناتنا) الحجج الرئيسية لاستغلال فكرة الحتمية إلى ست متتالية كما يلي:

1- هناك فروق واختلافات طبيعية بين كل الشعوب والفئات.

2- يمكن قياس هذه الفروق باستخدام مؤشرات التنمية والتخلف.

3- هذه الفروق هي نتاج فروق في العوامل الجينية والثقافية.

4- تدوم الفروق في العوامل الثقافية تبعًا لفرضية الحتمية الثقافية.

5- لا يمكن تغيير هذه العوامل الجينية والثقافية. حيث يتم نقلها وتوريثها للأجيال المتعاقبة في كل فئة أو أمة.

6- الدفاع عن الحتمية الثقافية والجينية أكثر منطقية من محاولة كسرها وتغييرها.

ومن الواضح أن تتالي هذه الحجج الست لا يتم بشكل منطقي تمامًا, فبالرغم من قبولنا لقياسات التنمية والتخلف الموجودة في الحجج الأولى, فإن الحجج لا تصبح منطقية اعتبارًا من الحجة الرابعة القائلة بأبدية الفروق, بل تعبر الحجج من 4 إلى 6 عن افتراضات, وليس عن قياسات. وهذا ما أثبته كتاب (ليس في جيناتنا, 1984) بنجاح كبير.

إن أعنف مَن فضح الانقياد الأعمى للأشكال المختلفة من الحتمية الثقافية التي تدافع عن الجمود الاجتماعي والثقافي هو (كارل بوبر). وذلك في كتابه الصادر في خضم المعركة مع الفاشية والنازية, المعنوَن: ( المجتمع المفتوح وأعداؤه). والذي طرح فيه الإشكالية المهمة التالية:

إنه حتى لو كانت بعض الشعوب أرقى من غيرها جينيًا وثقافيًا, فإن هذا يسري على نطاق ما هو كائن بالفعل, ولا يحق لأحد أن ينتقل منه إلى نطاق ما ينبغي أن يكون.

وطبقًا لهذا الرأي, فإنه حتى لو اعترفنا بتفوّق جنس على آخر, فإنه لا يتوجب علينا استخدام ذلك لتبرير استمرار علاقات الاستغلال, بل يتوجب علينا أن نعمل على كسر هذه الحتمية, حتى لو تضمن ذلك كسر ما نظنه من طبيعة الأشياء القائمة, وبذلك يكون هدفنا هو الوصول إلى وضع جديد أكثر مساواة وعقلانية. فحتى لو كانت الأشياء والسمات قابلة للتوارث, فإنها أيضًا قابلة للتغيير.

وبهذا الرأي, افتتح (بوبر)عصرًا نظريًا جديدًا من التفاؤل بالتغيير الجذري والقدرة على كسر الحتميات المختلفة.

إن القيم والعوامل الثقافية ليست كلاً متجانسًا, بل منها ما هو أكثر قابلية للتغير والإصلاح, كما أن منها ما يميل إلى الجمود والثبات, أو على الأقل, ما يتطلب وقتًا أطول حتى تؤتي جهود التغيير أو الإصلاح ثمارها فيه.

وفي دراسة الباحث توماس سويل عبر كتبه العديدة التي وضعها عن تلاقح الثقافات والحضارات, وجد أن الحتميات الثقافية تتعرض لتغييرات كبيرة. فكثير من الشعوب تجاوزت تخلفها إلى نمو واضح نتيجة احتكاك مباشر مع حضارة مختلفة, وفي كتابه الأخير (انتصارات وثقافات, 1998), يؤكد (سويل) صدق مقولة الباحث الفرنسي فرناند بروديل, الذي قال إن كلمة المتقدم والمتخلف كانت تطلق على شعوب مختلفة في عصور مختلفة, فليست الشعوب التي أصبحت متقدمة اليوم هي التي كانت متقدمة سابقًا, ولا الشعوب التي هي متخلفة اليوم هي التي كانت متخلفة طوال عصور التاريخ. بل لقد حدث تبادل كبير على مر العصور بين مواقع التقدم والتخلف. وهذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك, أن التقدم والتخلف, يقوم على مقاييس حضارية تتعلق بالعصر الذي تستخدم فيه والعلاقات بينها, أكثر مما تتعلق بالشعوب التي تطلق عليها. وقد أكّد سويل  الدور الإيجابي الذي قام به الفاتحون المسلمون عندما أخرجوا أوربا قسرًا من أسوأ مراحلها الحضارية على الإطلاق, مما يدل على أن الاحتلال يمكن أن يصبح عاملاً إيجابيًا في كسر الحتمية الثقافية للشعوب, وتدشين عملية التنمية.

إلا أنه لا يمكن الادّعاء بأن الاحتلال بشكل عام, هو ظاهرة إيجابية نتيجة لما يترتب عليه من تنمية, بل هناك تجارب سلبية يثبتها التاريخ, وهي تلك التي تم فيها النصر لشعوب ذات حضارة أدنى على شعوب ذات حضارة أرقى, كما حدث في حالة اجتياح المغول لأراضي الإسلام, وهو ما صحبه تدمير كبير وانهيار حضاري وتنموي.

إذن فالدرس الذي نخرج به من قراءة (سويل) وهو أن دراسة تفاعل الحضارات وعلاقاتها, يعتبر أهم بكثير من وضع الفروض والتحيّزات عن الحضارات باعتبارها موضوعات مستقلة عن بعضها.

وبذلك يصل بنا (سويل) إلى نتيجة مفادها أن التنمية عملية ممكنة, ولكنها لا تتم بطريقة فردية أو استقلالية, بل تتم من خلال تلاقح الحضارة مع نظيراتها في العالم, وبخاصة الحضارات الأكثر تفوّقًا.

نحن والمصطلح والتناقضات

لقد أردت أن أعرض لمفهوم رأس المال الثقافي, وما وراءه, وما حوله, بالرغم من وعورة هذا كله, ليس بهدف التغطية الثقافية وحسب, بل أساسًا لأن لنا – نحن العرب – في معطياته إن استقامت, فرصة حقيقية لإدراك المرتكزات الممكنة لدينا للانطلاق قدمًا, أو على الأقل للإفلات مما نحن فيه من ضعف وتراجع. فلاشك أننا نملك من بديهيات رأس المال الثقافي عناصر إيجابية واضحة, من تراثنا الروحي والقيمي والأخلاقي, تحض على العمل, والإتقان, وتطمح إلى التناسق مع مكونات الحياة جميعًا باعتبارها أمانات, علينا أن نؤديها بإخلاص. وهذه المفردات الواضحة ضمن محتويات أي رأسمال ثقافي, كفيلة – لو حرصنا على تحقيقها – بدفعنا إلى الأمام. بل إن حرصنا على استعادة هذه العناصر الغائبة, أو الضائعة منا, سيجعلنا نراها لدى غيرنا ممن أحسنوا في الدنيا عملاً ودأبا, ونتعامل معها بمنطق أنها بضاعتنا ردت إلينا. ولدينا في التجربة الماليزية أسوة حسنة, ولقد توقفت من قبل أمام هذه التجربة ورائدها مهاتير محمد, وأراني أعود إليها الآن كتجربة ناجحة لاستثمار رأس  المال الثقافي في عملية النهوض والنجاح بين الأمم. فقد بدأ مهاتير باستنهاض الأغلبية المسلمة من المالاويين, وحضّهم على تبنّي قيم احترام العمل لدى الأقلية الصينية, ونجح في هذا الاستنهاض الثقافي حتى استقرت قيمة احترام العمل لدى الأغلبية المسلمة, وكأنها بضاعتهم رُدّت إليهم, وكفل هذا لماليزيا تجانسًا خلاّقًا أعاد تقديمها للعالم كأمة متحضّرة ومتقدمة. وهي تجربة ترد تلقائيًا على التناقضات التي أراد البعض تكريسها من وراء نظرية رأس المال الثقافي, فهذه التجربة تدحض ادّعاءات الحتمية الثقافية التي يروّج لها البعض لإحباط الشعوب الفقيرة والطامحة للتقدم.

ويبقى لدينا أن نؤكد على أهمية الثقافة, بكل معانيها, كقاعدة انطلاق اقتصادي, واجتماعي, ومن ثم تتحول الثقافة بديهيًا إلى قيمة محسوسة يمكن تقديرها بالذهب وبكل النفائس, بالرغم من أنها تظل قيمة معنوية, لكنها قيمة متحوّلة, قابلة للتجلي في كل عناصر الإنتاج والإبداع البشري.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*