استحالة الهيمنة ثقافيًا

تحل في هذا الشهر, ذكرى سنوية لمشهد يخص الثقافة في العالم, ودلالة هذا المشهد تكاد تكون في كلمة فيها الفصل فيما بين الثقافة والسياسة, وتنطق بأوضح وأفصح عبارة ممكنة, لتؤكد أن ما يجوز في أمور السياسة العالمية, لا يمكن أن يجوز في شئون الثقافة الإنسانية.

  • بعد حربين مروعتين أدرك المجتمع الدولي وجوب قيام منظمة عالمية تنشد السلم بعيدًا عن منطق الصدامات المسلحة
  • منظمة اليونسكو قامت على قاعدة الحاجة لتأسيس وعي ثقافي مضاد لاندفاعات السياسة نحو الحروب
  • احترام التعددية الثقافية يغني الثقافة العالمية بروافد عريقة ويوسع قاعدة المشاركة في سلام العالم

في يوم 29 سبتمبر من العام الماضي 2004, عادت الولايات المتحدة إلى منظمة العمل الثقافي الدولي المشترك, تلك التي يطلق عليها اختصارًا (اليونسكو) – اختزالاً للحروف الأولى  من اسمها باللغة الإنجليزية (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) – وكانت الولايات المتحدة انسحبت من (اليونسكو) في 31 ديسمبر العام 1984, أي أنها ظلت قرابة العشرين عامًا خارج هذه المنظمة الثقافية الدولية, قبل أن تعود وتستعيد عضويتها فيها. فلماذا كان الانسحاب؟ ولماذا كان الرجوع؟ وهل من معنى كبير, أكبر من مقتضيات السياسة, في هذه الحالة التي لا يمكن اختزالها في أي تحليل سياسي – ضيّق الإطار – بعيدًا عن ساحة الثقافة الرحيبة؟

قبل أن نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة, لنستنتج منها ما نستنتج, يمكن أن يكون مفيدًا لو نستدعي إلى الذاكرة قصة إنشاء منظمة اليونسكو, ونتتبع مسار صعودها, لعلنا نتلمّس ملامحها, ونصل إلى تفسير مقنع لانسحاب الولايات المتحدة منها, ثم تفسير آخر لعودتها إليها, ومن التفسيرين معًا نحاول أن نستنتج المعنى الثقافي العام في هذه القصة, بعيدًا عن أي استقطاب سياسي, فالسياسة متغيرة, أما الثقافة – كفعل للرُقيّ الإنساني – فهي دائمة التواصل في جوهر الحياة الإنسانية والنشاط البشري.

من حرب إلى حرب

يبدو أن تتبع فكرة السلام العالمي, يستلزم البدء من تاريخ الحروب العالمية, ولأن منظمة اليونسكو هي رافد من روافد آخر أفكار السلم العالمي, فإننا نعود إلى الجذور, جذور صعود التوق إلى السلام في العالم, من أتون الاحتراق بنيران الحروب العالمية.

من أتون الحرب العالمية الأولى ولدت فكرة (عصبة الأمم) التي تبلورت في أعقاب هذه الحرب المدمرة, العام 1920, وكان الغرض من هذه العصبة أن يكون هناك تجمع دولي لحفظ السلام العالمي يقوم بتسوية المنازعات الدولية سلميًا, وينمي أشكال التعاون الدولي. وجاءت فكرة (عصبة الأمم) ضمن النقاط الأربع عشرة التي أعلنها (وودرو ويلسون) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أثناء الحرب العالمية الأولى, وأدمجت معاهدة عصبة الأمم, التي تتضمن 26 مادة ضمن معاهدة صلح فرساي. لكن المفارقة كانت في عدم انضمام الولايات المتحدة الأمريكية لهذه العصبة, بسبب عدم تصديقها على معاهدة فرساي, لرفض مجلس الشيوخ الأمريكي الموافقة عليها. كان الأعضاء الأصليون في هذه العصبة 28 دولة, زادت حتى صارت 60 دولة, ثم انسحبت منها دول, وفصلت دولة كبرى كالاتحاد السوفييتي السابق. لكن المبادئ الرئيسية لهذه العصبة كانت مقبولة منطقيًا, فهي تنص على تعهد أعضائها باحترام أراضي واستقلال دولها, بعضها بعضًا, وعدم الالتجاء إلى الحرب لفض نزاعاتها قبل العرض على التحكيم في مجلس العصبة, وإقرار الأعضاء بأن حفظ السلام يقتضي خفض التسليح الوطني إلى الحد الأدنى الذي يتفق مع الأمن القومي لكل دولة. وكانت الضربة القاضية لهذه العصبة آتية من هذا البند الأخير, فقد كثفت ألمانيا النازية من تدجيج نفسها بالأسلحة الفتاكة والمبتكرة, بما لا يدع شكًا في اشتعال حرب جديدة. فكانت الحرب العالمية الثانية, التي بدأت العام 1939, ولم تخمد نيرانها إلا العام 1945. وكانت الخسائر البشرية – فضلاً عن غيرها من الخسائر – مروعة, فقد خسرت الولايات المتحدة 292 ألفًا, وبريطانيا ودول الكومنولث 544 ألفًا, والاتحاد السوفييتي مليونًا و750 ألفًا, وفرنسا 210 آلاف, وألمانيا 850 ألفًا, وإيطاليا 300 ألف, والصين مليونين و200 ألف, واليابان مليونًا و500 ألف, أي ما يقارب 15 مليون إنسان في بعض الإحصاءات, التي يمكن أن يضاف إليها ضحايا بولندا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا ودول بحر البلطيق والدول الإسكندنافية, وضحايا المعتقلات الألمانية, وربع المليون إنسان ضحايا القنبلتين الذريتين على هيروشيما ونجازاكي. أي أن العدد الإجمالي للبشر الذين قضوا في محرقة الحرب العالمية الثانية يمكن أن يصل إلى عشرين مليون إنسان, بعشرين مليون قصة مأساوية.

ولقد تعمدت ذكر الأرقام ليتجسّد مدى الرعب الكوني الذي أحدثته هذه الحرب, والتي كان طبيعيًا – بالرغم من مداورات السياسة ومناوراتها – أن يتمخض عنها نزوع قوي لبناء منظومة دولية جديدة على أنقاض (عصبة الأمم) المنهارة, وكانت منظمة الأمم المتحدة هي الصيغة التي وُلدت من رحم الحرب العالمية الثانية لتبشر بقيم السلام العالمي وترعاه عبر آليات دولية لحل المنازعات بالطرق السلمية, ودعم التعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي, مما يعزز روح السلام العالمي. وقد تمت المشاورات على مقترحات ميثاق الأمم المتحدة بين الاتحاد السوفييتي وبريطانيا والصين والولايات المتحدة, في خريف العام 1944.

وقامت هذه المنظمة الدولية بموجب معاهدة سان فرانسيسكو في 26 يونيو 1945.

ولأن درس الحرب العالمية الثانية كان فادحًا وبليغًا, فقد انتبه المجتمع الدولي, الذي اتسعت رقعة مشاركته في الأمم المتحدة, إلى أن الاتفاقات السياسية وحدها لا تصون السلم العالمي, فثمة ضرورة لتأكيد وعي مضاد لاندفاعات السياسة نحو الحروب, أي الوعي بحكمة السلم والمسالمة, وهي مسألة ثقافية بالضرورة.

ومن ثم جاءت منظمة (اليونسكو) لتكون رافدًا متميزًا لمنظمة الأمم المتحدة في 4 نوفمبر 1946, ووجه التميّز في هذا الرافد الجديد, أي منظمة اليونسكو, أنه ينشد السلام العالمي عبر آليالت وأدوات مختلفة عن أدوات وآليات السياسة وأهلها, وبعبارة واضحة كان توجه (اليونسكو) نحو الثقافة وأهل الثقافة في العالم, وبالتالي كان بحثها عن سلام البشرية ينهج نهجًا مغايرًا لنهج السياسة والسياسيين الذين أشعل الغلاة منهم نيران محرقتين عالميتين في قارة واحدة خلال قرن واحد.

فماذا عن النهج وكيف كان المسار؟

شروط وذرائع

لقد لخّص د.عبدالسلام المسدّى – المثقف العربي وأستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية – الفلسفة التي قامت عليها منظمة اليونسكو في عبارة بليغة موجزة هي: (البحث عن الوئام الحضاري من خلال الاختلاف الثقافي), وهي عبارة تتضمن الإقرار بالتعددية الثقافية, والتقدير المتساوي لثقافات الشعوب المختلفة, والاحترام المتبادل بين هذه الثقافات, ثم الإقرار بأن التعدد الثقافي يغني مجمل الثقافات العالمية للبشر على وجه الأرض. وهذا المفهوم الرحب يعني في كلمة واحدة: اللاهيمنة! وهو نهج سارت عليه منظمة اليونسكو منذ نشأتها ومع صعودها, ويقول د.المسدي في ذلك: (لقد اجتهد كل من تعاقبوا على إدارة هذه المنظمة الدولية, في أن يترجموا هذه الفلسفة ترجمة عملية, واعتبروها ضربًا من الميثاق غير المعلن, ولما جاء أحمد مختار مبو – لإدارة اليونسكو – في 14 نوفمبر 1974, واصل الدرب الذي اختطه أسلافه, وربما أخذته الحماسة لأنه كان ابنًا بارًا للقارة الإفريقية, التي دفعت أكثر من غيرها ضريبة الاستعمار, وكان من السنغال, وهو عريق الأصالة, حمله التاريخ على أن يؤلف بين الأضداد, فشعبه مسلم في غالبيته, واللغة الرسمية للدولة هي الفرنسية). ولا شك في أن ما ذهب إليه د.المسدي صحيح, لكنه لم يتوقف عند مختار مبو, بل امتد إلى من تلاه من قادة اليونسكو, فالمسألة هي ما ذكره د.المسدي وهي أكثر من ذلك, بدليل ما ساقته الولايات المتحدة من ذرائع للانسحاب من اليونسكو, وما وضعته من شروط عند العودة. ولننظر للذرائع, ولنتأمل الشروط.

علّلت الولايات المتحدة انسحابها من اليونسكو بعدم رضاها عن استفحال البيروقراطية وسوء التصرف المالي خاصة, وقد كانت تتكفل وحدها بما يقارب ربع ميزانية اليونسكو. وقد نفهم ذلك في إطار أن من يدفع أكثر يريد أن يهيمن أكثر, لكن الأمر في اليونسكو بدا ويبدو مختلفًا, فقرارات اليونسكو تؤخذ بمعيار الأغلبية, والأغلبية تشكلها دول معظمها من العالم الثالث مع دول أوربية, ذات وزن ثقافي وحضاري معروف. خرجت الولايات المتحدة بهذه الصيغة المعلنة والتي تشي بتطبيق منطق السياسة على الثقافة, حيث النفوذ للأقوى, لكن هذا الشق المعلن وما يشي به لم يكن هو الوحيد, فثمة شق آخر ظهر في شروط الولايات المتحدة عند عودتها, وهو شق لا يتعلق فقط بالنفوذ بل بفلسفة اليونسكو ذاتها التي سبقت الإشارة إليها. فقبل أن تعود الولايات المتحدة عن انسحابها, أبلغت إدارة اليونسكو باعتراضها على تقرير (تنوعنا الخلاق).

فلننظر إلى هذا التقرير.

أخلاقيات عالمية جديدة

في افتتاحية الشهر الماضي, والتي كانت تتناول موضوع الإصلاح من زاوية نظر الثقافة, أشرت إلى التقرير الذي أصدرته اللجنة العالمية للثقافة والتنمية العام 1995, عن الأمم المتحدة تحت عنوان Our Creative Diversity وصدر في ترجمة كاملة عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر تحت عنوان (التنوع البشري الخلاّق), وكانت الرؤية التي قدمها هذا التقرير المهم في تاريخ التقارير الثقافية العالمية, هي التي أضاءت لي فكرة أن الإصلاح الثقافي لن يتحقق من دون الانتباه إلى أن الثقافة في معناها الواسع ليست ثقافة النخبة في أي مجتمع, بل هي مجمل ثقافات الجماعة البشرية المتنوعة المكونة لأي مجتمع, خاصته وعامته, تراثه وحاضره, وتطلعاته المستقبلية. فالكتاب الذي كان احتفاء معمقا بالتنوع الثقافي للبشر على كوكب الأرض, يمكن أن يقودنا أيضًا إلى احترام التنوع الثقافي في كل مجتمع يكوِّن أمة بعينها من أمم هذا الكوكب, وهذه واحدة من عشرات الأفكار التي ينطوي عليها هذا التقرير المهم. كان احترام التنوع الثقافي هو جوهر هذا التقرير الذي أصدرته اليونسكو, بعد بحث معمق من نخبة مرموقة من مفكرين من مختلف أنحاء العالم, عكفوا على دراسة وتقصي الشأن الثقافي العالمي, وتجمعت بحوثهم ورؤاهم ليضمها هذا التقرير, الذي يشكل ميثاقًا عالميًا للثقافة, وقاعدة انطلاق للثقافات المحلية المختلفة, بل مرشد رؤية لاحترام التنوع الثقافي داخل المجتمع الواحد, كما بين المجتمعات المختلفة. ولعل هذا كان الأساس الذي قدم فيه التقرير فصلاً عن وجوب انبثاق روح عالمية جديدة, تعبر عنها أخلاقيات عالمية جديدة, بدأ بمقتطف من خطاب لأحد المشاركين في مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في ريو دي جانيرو, يقول: (إن العالم قريتنا, فإن شب الحريق بأحد بيوتها, تعرضت الأسقف التي تظللنا جميعًا للخطر. وإن حاول أحدنا أن يبدأ في إعادة البناء فإن جهوده ستكون رمزية تمامًا. فيجب أن يكون التضامن هو سمة العصر, وعلى كل فرد منا أن يتحمل المسئولية العامة). وفي معرض الإجابة عن السؤال الافتتاحي (لماذا نحن في حاجة إلى أخلاقيات عالمية جديدة؟), يقول: لتوفير الظروف التي تسمح لكل البشر في كل أنحاء العالم بحياة كريمة, فإن الأمر يتطلب طاقات بشرية هائلة, وتغييرات بعيدة المدى في السياسات. وهي مهمة صعبة في ظل ما يواجهه العالم من مشكلات عديدة, يتصل كل منها بالتنمية, أو قد يكون جزءًا منها, ولكل منها ضغوطه, وكل منها يحتاج إلى حل عاجل. ولكن كما قال أرنولد توينبي: (إن عصرنا هو أول جيل منذ فجر التاريخ, يجرؤ فيه الجنس البشري على الإيمان بإمكان إتاحة فوائد الحضارة للجنس البشري كله).

إيجاد أخلاقيات عالمية جديدة رآه التقرير ينطبق بالتساوي على كل المشاركين في الشئون العالمية, وتتوقف كفاءة ذلك على قدرة الناس والحكومات على الترفع عن المصالح الذاتية الضيقة, وموافقتها على أن مصالح البشرية ككل, تكمن في قبول مجموعة الحقوق والمسئوليات المشتركة. هذه الرؤية تبدو طوباوية بالطبع إذا أخذت بعين السياسة والسياسيين غير المنفتحين, لكنها بالنسبة للثقافة والمثقفين تبدو عادلة ومنطقية, ومن ثم كان للثقافة دور رآه التقرير أساسيًا في البحث عن أخلاقيات عالمية جديدة, لأن هذا المسعى هو في حد ذاته نشاط ثقافي يتضمن تساؤلات من قبيل: من نحن؟ وما هو هدفنا؟ وما هي العلاقة بيننا وبين الآخرين, وبيننا وبين البشرية جمعاء؟ وهي تساؤلات في جوهر الثقافة. كما أن أي محاولة لصياغة أخلاقيات عالمية يجب أن تأخذ في اعتبارها تجارب الناس المعنوية, وذاكرتهم التاريخية, وتوجهاتهم الروحية, وهي أمور تتمتع بها كل الشعوب في كل الأمم, صغرت أم كبرت. وبالتالي, تتيح المعالجة الثقافية فرصة مشاركة مفتوحة لكل البشر في إيجاد هذه الأخلاقيات العالمية الجديدة, والتي يمكن الإشارة إلى بعض خطوطها العامة – مما أورده التقرير – في:

  • اعتبار (حقوق الإنسان) معيارًا حتميًا للسلوك الدولي, بمعنى المسئولية المشتركة عن حماية كيان الإنسان المادي والمعنوي, بكل ما يتبع ذلك من متطلبات.
  • الإتاحة الديمقراطية للجميع, وحماية حقوق الأقليات, في إطار من التسامح والتعايش الثقافي المتنوع.
  • المساواة بين الأجيال, بمعنى مسئولية أجيال الحاضر عن أجيال المستقبل, وهو ما يتمثل في صون مقدرات البيئة الطبيعية, وعدم استنزافها والنظر لكل الأفراد والأجيال باعتبارهم أعضاء في سلسلة عائلية واحدة.

كانت هذه بعض مؤشرات الأخلاقيات العالمية الجديدة, التي دعا إليها تقرير اليونسكو, الذي أعلنت الولايات المتحدة عدم رضاها عنه, وهي تستعيد عضويتها. فما معنى ذلك, والمقصود ليس المعنى السطحي, بل المعنى الأعمق, وما هي دلالاته؟

بعد إبلاغها إدارة اليونسكو بعدم رضاها عن تقرير (تنوعنا الخلاق), اشترطت الولايات المتحدة الأمريكية, مع عودتها أن تكون لها العضوية في المكتب التنفيذي الذي يقوم مقام المجلس الإداري, ونأت بنفسها عن مفاجآت التصويت بالاقتراع, وتم الضغط على بعض البلدان قليلة العدد لتسحب ترشيحها, وانسحبت هذه البلدان, ومن ثم عادت الولايات المتحدة لتقدم مساهمتها البالغة 22 في المائة من ميزانية اليونسكو, وهذه النسبة تساوي 610 ملايين دولار للسنتين 2004 و2005.

وقبل أن نحاول استشفاف المعنى في عودة الولايات المتحدة إلى اليونسكو, باعتراضاتها الفكرية وشروطها الإدارية وتقدمتها المالية, التي لا شك في ضخامتها, تعالوا لنرى كيف سارت اليونسكو من دون الولايات المتحدة طوال عشرين عامًا.

بالرغم من الفجوة المالية التي سببها انسحاب الولايات المتحدة, ومعها إسهامها الضخم في ميزانية اليونسكو, فإن هذا لم يوقف نشاط اليونسكو الكبير والمشهود في كل أرجاء العالم, خاصة في مشاريعها المتحققة بنجاح لصيانة التراث الإنساني, من عمران ومعالم أثرية ومواقع تراثية ومحميات ثقافية وبيئية, خاصة في البلدان الفقيرة. كما عملت اليونسكو على إعادة كتابة تاريخ العلوم على المستوى الإنساني, فأنصفت الإسهامات التي قدمها كثيرون خارج العالم الغربي من أصحاب الثقافات العريقة الصينية والهندية والعربية والفارسية, وهو مما كان البعض يتعمدون تغييبه في مضمار تاريخ العلوم.

أما المساهمة الثقافية النظرية الأبرز في عمل اليونسكو, فكانت الإخلاص لمفهوم الخصوصيات الثقافية, عبر المؤتمرات والمنتديات, وهو ما جعل عشرات الدول تعضّد هذا المفهوم ومنها دول غربية كبيرة بالإضافة إلى دول الجنوب المعروفة بمجموعة السبعة والسبعين, وكان نتاج هذا الجهد الناجح هو الوصول إلى التقرير المشار إليه (تنوعنا الخلاّق) الذي لم ترض عنه الولايات المتحدة.

لقد انسحبت الولايات المتحدة لأنها كانت تريد معاملة الثقافة كما السياسة, بمعنى ترجمة القوة المادية إلى نفوذ وهيمنة, وجاءت عودتها لتوحي بشيء من ذلك الحرص على النفوذ الإداري. لكن بالرغم من اعتراضها على فلسفة التنوع, فإن عودتها توحي بأن هناك عقلاء في الولايات المتحدة, أدركوا  أن العمل الثقافي الدولي يستحيل أن يخضع لآليات العمل السياسي العالمي. فالثقافة مسألة تتعلق بالإرث الحضاري والروحي والنفسي والتاريخي للشعوب, وهو أمر لا يؤخذ بمعايير وموازين القوى المعروفة في السياسة, أو هكذا نأمل.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*