القدس.. (مملكة الضمير)

في رحاب هذا الشهر الكريم, شهر الصوم والتسامي الروحي, تتوجه أفئدتنا, تلقائيًا, بدافع العقيدة السمحة, وبدفع تذكارات النشأة والنماء وأصداء التاريخ, نحو القبلة المشرفة في مكة. وبشكل تلقائي أيضا, تلتفت الأفئدة, إلى المسجد الأقصى – أولى القبلتين, ومن ثم نكون وجدانيًا في القدس, وتكون القدسبالأحرى – فينا, وها هو قادم من بعيد, يثير ما تكتنز به دواخلنا من قصة القدس.

  • عودة موضوع القدس لدائرة الإبداع الإنساني العالمي مكسب لقضية القدس التي يراد لها أن تغيب عن ضمير العالم
  • تصوير الممثل السوري لشخصية صلاح الدين الرحيمة دفاع عن العرب والمسلمين في لحظة يتصاعد فيها اتهامهم بالعنف والدموية
  • على أسوار القدس أظهر  الفيلم أن جنوح صلاح الدين للسلم ارتبط بشرط خروج المحاربين الصليبيين الغرباء منها

 

القدس في أعمق أعماقنا بلا شك, وعينا هذا أو لم نعه, لا على المستوى الوجداني فقط, بل على مستوى وجودنا الإنساني كله, المقدس, واليومي, التاريخي والراهن, المعنوي والمادي. فالقدس قصتنا الكبيرة كمسلمين, وهي قصتنا الأهم كعرب, مسلمين وغير مسلمين, وهذا ما لا يفهمه البعض في العالم, وإن كان هناك من يحاول أن يفهم, وعلينا أن نحترم المحاولة, حتى لو كانت لا ترضي كامل طموحنا. ومثال ذلك, فيلم (مملكة الجنة) للمخرج العالمي (ريدلي سكوت), والذي تكلف ما يقارب 130 مليونا من الدولارات, وأثار من الجدل – لدينا وفي الغرب – ما يستحق أن نتوقف عنده, ونبحث في معانيه, لعل هذا يكون مفيدا في حديث القدس الذي يلح علينا في هذا الشهر الكريم, وينبغي أن يستمر إلحاحه في كل الشهور والأوقات, فالقدس قضية كبيرة, إن لم تكن الأكبر, لا من المنظور الديني وحده, بل من المنظور الدنيوي أيضا.

المشاهد تحكي

لم أر الفيلم إلا أخيرا, بعد أن هدأت ضجة شهور العرض الأولى, ومنذ المشهد الأول تكوّن لدي انطباع بأنني حيال رؤية تحاول أن تنفي عن نفسها سمة التعصب الغربي تجاه العرب والمسلمين, فالمشهد الذي يجري في فرنسا العام 1184م يصور قسوة الكهنة الغربيين المحليين في عملية دفن زوجة حدّاد القرية الشاب – سنكتشف أنه بطل الفيلم فيما بعد – (باليان), فالمرأة التي ماتت منتحرة بسبب مرضها, يعامل جسدها بوحشية مفرطة على اعتبار أنها كافرة, يقطع الكهنة رأسها ويحرقون جثمانها, وتترك زوجها الذي كان يحبها في حالة بائسة من فرط الحزن على فراقها ومن شعور رسّبه داخله الكهنة بأن روحها لن تنال الخلاص, وبينما هو في يأسه وضياعه, يأتي والده الذي لا يعرفه, على رأس قافلة من المحاربين الصليبيين, ويحاول إقناعه بالذهاب إلى القدس (المدينة التي سيحكمها الضمير). وبإغراء أن يحصل لروح زوجته الراحلة على الخلاص يوافق على الانضمام إلى الحملات الصليبية التي احتشدت في أوربا للاستمرار في السيطرة على (مملكة السماء) الأرضية. ويتوجه (باليان) ووالده ومجموعة من الصليبيين إلى ميناء الأرض المقدسة (مسينا) حيث يعتبر نقطة انطلاق الصليبيين إلى القدس, التي تعتبر كل خطوة على الطريق إليها (سعيا لمحو الخطايا), وفي الميناء المثقل بأكداس المتعبين من الساعين لمحو الخطايا, أو الهاربين من أوربا أو الطامعين في مغانم دنيوية, نسمع عبارات التحريض على القتل والموت, وكأنها تكرار لعبارات التطرف الشائعة الآن, والتي تصور هذا الإجرام التاريخي الدنيوي على أنه (طريق إلى الجنة), حيث يكون (قتل الكافر ليس خطيئة), و(محو الخطايا يكتمل في القدس), و(إرادة الحرب إرادة الله), وسفك دماء المسلمين تخليص للقدس منهم حتى تكون (مملكة الضمير والعدل)!

يصل باليان إلى القدس التي تصورها مشاهد الفيلم مجمعا للشعوب والأديان والألسنة, تخوض في غمارها الوجوه البيضاء والسمراء وترتفع في ساحاتها النداءات بلغات متعددة, عربية وأوربية وعبرية, فيما ترتفع في سمائها أبراج الكنائس ومآذن المساجد, وتختلط دقات الأجراس بأصوات المؤذنين. نعرف في القدس أن والد باليان فارس مرموق مقرب من الملك الصليبي المصاب بالجذام والذي يخفي تشوهات وجهه بقناع معدني وتسفر حواراته عن شخصية حكيم كاره للعنف ومؤهل للتسامح يحمل تقديرا خاصا لخصمه قائد المسلمين (صلاح الدين). يموت والد (باليان) فيرث عنه حكم مقاطة (أيبلان) التي تعتبر حامية للطريق إلى القدس, وخلال تلك الفترة تظهر مشاهد الفيلم طريقة حكم باليان المتسامح والمتواضع الذي يتعامل مع رعاياه من المسلمين واليهود والمسيحيين على قدم المساواة, يشاركهم العمل, ويشركهم في خير الواحة الذي ساهموا في زرعه ورعايته, فتتحول الأرض من مجرد صحراء إلى واحة مزدهرة تفيض على سكانها بالظلال والثمار.

تنتقل مشاهد الفيلم لتبين لنا أن هناك صراعا متفاقما بين الحكام الصليبيين, وتحديدا ملك القدس المريض ذي المواقف المعتدلة و(حراس المعبد) المتعصبين المتشنجين الرافضين للصلح مع المسلمين, وحاكم الكرك الصليبي المتعطش للدماء والمرحب بالفتن والصدام, الذي تنتهي إحدى الهجمات التي قادها على قوافل المسلمين بخرق الهدنة التي استمرت لسنوات ست بين المسلمين والصليبيين, فيقرر على إثرها صلاح الدين أن يستعيد حصن الكرك ويؤدب حاكمه.

ويقرر الملك الصليبي المريض, مكرها, أن يتصدى لجيوش المسلمين, وأمام أسوار الكرك حيث يحتشد الجيشان – جيشا صلاح الدين والملك الصليبي – وبعد جدل ونقاش, يتفق الجانبان على تجنب القتال مقابل أن يقوم الملك بمعاقبة حامي حصن الكرك (رينالد الستلويني), الذي يقبض عليه ويصفد في الأغلال ويقاد مهانا ليسجن في القدس جزاء ما اقترفت يداه.

بعد بروز المواهب القتالية والقيادية وملامح الحكمة والاعتدال لدى باليان – تبعا لتصوير الفيلم – يود الملك قبل وفاته تزويجه ابنته, التي هي زوجة (جي رينو) المتعصب ضد المسلمين, وبذلك يكون باليان المعتدل ملكا على القدس يواصل مسيرته المتعقلة مع صلاح الدين, وبعد وفاة الملك واعتلاء ابنته العرش تعرض على باليان الذي وضح ميلها إليه أن يزيح زوجها ليحل مكانه ويغدو بالتالي ملكا لكنه يرفض ذلك لعدم قدرته على (بيع روحه) التي لا تزال مرتبطة بزوجته المتوفاة, وتقرر ابنة الملك (سيبيلا) تعيين زوجها ملكا على عرش القدس, فيبادر في أولى خطوات حكمه بإطلاق سراح حامي حصن الكرك مطالبا إياه بافتعال سبب للحرب مع المسلمين تكون إيذانا بنقض الهدنة والعودة إلى الاقتتال.

جراء التغيرات التي فجرها الملك الصليبي الجديد المتعصب والمتعطش للقتال يحدث انقسام بين فرسان الصليبيين, بين متحفظ على خطواته ومتردد في القبول بها وآخرين كانوا ينتظرونها لري عطشهم المتطرف لقتال صلاح الدين وجيوشه, ويخرج الملك الجديد لملاقاة جيوش المسلمين خارج القدس مخالفا رأي (باليان) ويحدث قتال مرير بين الطرفين تسيل فيه الدماء وتشتعل الحرائق وتتشرد الجموع وتكون الذروة هي معركة (حطين) الشهيرة الطاحنة التي تنتهي بانتصار جيش المسلمين واكتمال حصار القدس وانتهاء آخر المواجهات على أسوارها باتفاق بين صلاح الدين المنتصر وباليان المهزومة فلوله, أن يتم تسليم القدس بغير مزيد من القتال والدمار مقابل أن يصفح صلاح الدين عمن تبقى من مقاتلي الصليبيين والفرنجة وجعلهم يخرجون بأمان من القدس. وينتهي الفيلم بعبارات تحيل الماضي إلى الحاضر الذي لم تزل فيه (مملكة الجنة) أو (مملكة الضمير), تفتقد السلام.

النقد المتوازن عندنا

لدينا, في العالم العربي, قرأت كثيرا مما يتعقب الفيلم بعين عدم الرضا, بل هناك من اعترضوا عليه وأدانوه قبل أن يشاهدوه, جريا على العرف السائد بين الكثيرين بأن لا شيء يأتي من الغرب يمكن أن يسر القلب, وإعمالا للشك التاريخي الذي ينظر لكل ما يأتي إلينا من هناك عبر عدسات (نظرية المؤامرة) لكن هناك من حاول أن يكون متوازنا, ومثال ذلك: الناقد (سعيد أبو معلا) الذي قدم رؤية متوازنة بين السلبيات والإيجابيات فجاء في نقده أن الفيلم وقع منذ البداية في خطأ أساسي ما يلبث أن تكشفه المشاهد ذاتها, يتمثل في عرضه على الشاشة معلومات قبل بداية العرض تشير إلى أن أسباب سفر المسيحيين من أوربا إلى القدس هي في الأساس مادية, أي في سبيل جمع الثروة والمال, وبالرغم من عدم نفينا لهذا السبب فإنه يعد الأقل من بين أسباب الهجرة لوجود السبب الرئيس المتمثل في التحريض الديني. كما أنه لاحظ المبالغة الكبيرة في إبراز أعداد جيش المسلمين, بالمقارنة مع الصليبيين, في حين أن الكتب التاريخية تشير إلى أن العكس هو الصحيح, وفي مقابل ذلك نرى خسائر المسلمين مبالغا فيها, وقد يعود هذا لطبيعة تفسير التاريخ من كل طرف من أطراف الصراع, ففي الفيلم نرى كثرة عدد جيش المسلمين الذي يسد الأفق, وهو ما يأتي تبريرا لهزيمة الصليبيين وأن الكثرة هي التي انتصرت لا العقل القائد ولا الابتكارات الحربية عند المسلمين ولا عقيدة القتال التي ظهرت في بسالة الفرسان المسلمين التي لا ينكرها التاريخ. كما لاحظ في الفيلم تحجيما لصورة البطل صلاح الدين, البطل الاستثنائي, لحساب القائد (باليان) الذي بدا رمزا للحكيم المخطط والقائد الشجاع, والذي يحمس الجيش الصغير, ويهدف لحماية المستضعفين, في حين ظهر صلاح الدين برباطة جأش منتظرا لا مشاركا في الحرب, غير مكترث بخسائره على جدران القدس. بينما لم يكف السيناريو عن التأكيد على أن القدس مدينة للديانات الثلاث (الإسلام, والمسيحية, واليهودية), كما قدم إشارة إلى (حائط البراق) باعتباره جزءا من آثار اليهود بالقدس. ثم إن هناك مؤاخذات أخرى تكشف نقصا في المعرفة الدينية والثقافية بالمسلمين ومنها ما يتعلق بشكل أداء الصلاة, حيث قدمها الفيلم كأنها تتم بشكل فردي دائما وليس في جماعة, وكذا طريقة ارتداء الثياب التي تسيدها اللباس المغربي إضافة إلى شكل مدينة القدس ذاتها, التي لم تظهر في زمنها التاريخي الحقيقي, ربما بسبب تصوير المشاهد الخاصة بالقدس في المغرب بعد رفض رئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في إسبانيا تصويرها في كنيسة (ميزكيتا) في قرطبة, التي كانت مسجدا كبيرا أيام دولة الأندلس الإسلامية.

أما عن الإيجابيات, فقد أظهر الفيلم الحوار الحضاري الذي دار في تلك الفترة بين الجانبين, وهو ما تمثل في موقفين أساسيين, الأول عندما قرر صلاح الدين استعادة الكرك من بارونها الصليبي المتعصب, حيث احتشد الجيشان, لتدور قبل الحرب مفاوضات قصيرة بين ملك القدس وصلاح الدين قَبِل الأخير خلالها عدم خوض الحرب لصالح فض الاشتباك, والاستمرار في الهدنة بشرط معاقبة بارون الكرك. وتمثل الموقف الثاني بحوار صلاح الدين مع (باليان) حامي القدس أثناء مفاوضاتهما على شروط تسليمها, حيث صفح الأول عن جميع المقاتلين من الفرنجة شريطة مغادرتهم المدينة. وعكس الحوار المهم قيما إيجابية, فهاجس القائد الصليبي هو الحفاظ على جنوده وسكان القدس من (بطش) صلاح الدين, ليكتشف بعدها أن قائد المسلمين لا يريد أن يقتل المسيحيين والمقاتلين الصليبيين بل استعادة المدينة.

وعن الفيلم أيضا, وفي إطار الاعتدال, كتب د. خالص جلبي, وهو جراح كبير وكاتب ذو رؤية بالغة التحضُّر, تنبع أهميتها الفائقة من أرضية إسلامية متعمقة, ونابذة للعنف بأسانيد دينية وعلمية عالية المصداقية والإقناع, يقول في معرض حديثه عن الفيلم: (كنت حرَيصا على معرفة ما الذي تغير في النظرة الغربية تجاه الثقافة الإسلامية والعرب, كنت أفتش في زوايا الفيلم حتى أرى الجديد, لأنه يعطيني فكرة عن التطور التاريخي في علاقة الغربيين بالعرب, وهو الأمر الذي حكاه المخرج ريدلي سكوت: أن الحملات الصليبية التي خرجت بدعوى تحرير القدس من أيدي الكفار, كانت كذبا وبهتانا, وأن هذه الحملة ما زال صداها يرن عبر التاريخ. وفي الواقع  فليس هناك من حرب أطول ولا أحفل بالضحايا والدماء مثل الحروب الصليبية, التي انفجرت بين أوربا والشرق العربي ونكب بها الطرفان, بل حتى القسطنطينية والأطفال. ففي إحدى الحملات سخَّروا (أي الصليبيون) الأطفال, فمات وخطف واستعبد معظمهم قبل أن يصلوا الأرض المقدسة, بعد أن غادروا دفء أحضان أمهاتهم. وفي العام 1204م, كانت الحملة الرابعة مصيبة على رأس أهل قسطنطينية, فقد نهبها الصليبيون وفعلوا بها ما لم يفعل أحد, ودنسوا مقدساتها, وسلبوا الحرز والأيقونات والآثار التاريخية. وفي الفيلم يظهر صلاح الدين الأيوبي, وهو الممثل السوري غسان مسعود الذي ضرب ضربته العالمية هذه المرة وكان ناجحا ومعبرا في دوره الرحيم, فهو يقابل ملك القدس المريض ليرسل له أطباءه الخاصين, وهي تمثل النقلة الحضارية بين برابرة أوربا. وفي الحقيقة كما كتب (جب), في كتاب خصصه عن صلاح الدين, أن سر الرجل كان في أخلاقياته العالية, وهو أدرك أن خلف الإخفاق السياسي انهيارا أخلاقيا, فعمد إلى ترميمه ونجح مؤقتا. والرجل لم يكن صاحب دعوة, بل رجل دولة). ولقد تساءل د. جلبي في نهاية مداخلته المتحضرة والجذابة: (هل ينصح برؤية فيلم من هذا النوع؟), وأجاب: (رأيي أنا أنه يجب رؤية أي فيلم يعرض ثقافتا على أية حال). ومن العجيب أن مقالة د. خالص جلبي عندما نشرت في أحد مواقع شبكة الإنترنت, أثارت جدلا من رافضين لمجرد استمراء الرفض, بل انتقل النقاش إلى زاوية شعوبية عجيبة سأشير إليها في نهاية الحديث. لكن هذا لا ينفي أن هناك كثرة ممن يحسنون الحوار بيننا, ويقدرون أهمية داعية متفتح ومتحضر مثل د. خالص جلبي.

وفي الغرب

الجدل الذي أثاره الفيلم في العالم العربي لم يغب عن العالم الغربي, بل استبقه, ومنه ما قاله (جوناثان رييلي سميث) الأستاذ في جامعة كامبريدج الذي يعتبر مرجعا في موضوعه إذ صرَّح بأن الفيلم تضمن الرواية الإسلامية الأصولية للتاريخ عبر تقديم المسلمين على أنهم متحضرون في مواجهة صليبيين همجيين. وقال لصحيفة (ديلي تلغراف) البريطانية: (كما لو أنها – يقصد رواية الفيلم – رواية أسامة بن لادن).

لكن مراقبين آخرين قالوا إنه فيلم مؤيد للمسيحيين. وبهدف تهدئة القلق, نظم البريطاني ريدلي سكوت والشركة المنتجة عروضا خاصة لمجموعات من المسيحيين والمسلمين الأمريكيين, أعلن في أعقابها مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) ومجموعة الدفاع عن حقوق المسلمين أن الفيلم تجنب أو حصر الأحداث ضمن قالب واحد, وقال المجلس في بيان له: (انطباعنا العام هو أن الفيلم يشكل وصفا متوازنا وإيجابيا للحضارة الإسلامية خلال الحقبة الصليبية). وأكد ريدلي سكوت في مؤتمر صحفي في واشنطن على ذلك قائلا: (لقد نجحنا في الحفاظ على توازن جيد).

وكتب ستيف بيرد في مجلة (جود نيوز ماجازين) المحافظة: (مع التوتر السياسي – الاجتماعي – الديني الحالي بين الغرب والعالم الإسلامي, كان يمكن أن يؤدي فيلم حول قتل العدو باسم الله إلى مشاكل أو أن يعتبر عملا فنيا دون قيمة, لكن الفيلم لم يسقط في أي من هذين الفخين).

أما (هولي ماكلور) ناقدة الأفلام لدى شبكة (ترينيتي برودكاست), أكبر مجموعة تليفزيون مسيحية, فقد قالت لوكالة (فرانس برس) إنها لم تر أي شيء يثير الصدمة في الفيلم, (وأعتقد أنه درس في التاريخ أكثر مما هو إعلان مبادئ). بينما قال خالد أبو  الفضل أستاذ القانون الإسلامي في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس: (إن الفيلم يظهر المسلمين على أنهم متطيرون والصليبيين على أنهم متسامحون).

وفي المقابلة التي أجرتها مجلة (المرأة) الألمانية في عددها الثامن عشر من هذا العام, مع الممثلة (إيفا جرين), التي أخذت دور ملكة (القدس) (سيبيللا), مع زوجها (جاي فون لوسينيان), سئلت عن تذمر بعض المسلمين النشطاء من أن الفيلم يحمل صورة سلبية عن الثقافة الإسلامية؟ (مع أن الفيلم عرض على لجنة خاصة في مكافحة العنصرية, وأستاذ في الإسلاميات من جامعة كاليفورنيا, وهذا تقدم نوعي في عرض الأفلام, وهو من نتاج العولمة, والاتصال الإلكتروني, فلم يعد يعرض العربي على أنه ذلك السفاح المتعطش للدم, الجهول والمتخلف), وكان جوابها: لعلهم لم يشاهدوا الفيلم, ولو رأوه لغيروا رأيهم, فهو يحمل كل الاحترام للثقافة الإسلامية, وصورة كريمة جدًا للإنسان العربي, فضلاً عن أن هذا الفيلم يظهر بوضوح أن كل دين فيه طائفة من المتشددين, الذين يمثلون أنفسهم, أكثر من الدين الذي ينتسبون إليه. وحين سئلت الممثلة إيفا جرين, أن الفيلم حافل بمناظر الحرب والقتل والدم؟, قالت: (نعم, هذا حق), لكن العنف الذي ظهر في الفيلم لم يقصد العنف لذاته, بل لإظهار أن العنف لا يخدم قضية, وأن الناس لم يستفيدوا من درس التاريخ شيئًا, ثم سخرت من رجال هوليوود المغرمين بمناظر العري والجنس, أنهم في فيلمهم الجديد لم يخرجوا فيلما مكررا للنسخ التي عندهم, بل كانوا أذكى هذه المرة, فحملوا الفيلم رسالة سياسية, وهذا أمر مهم.

ملاحظات خارج الجدل

بعد أن شاهدت فيلم (مملكة الجنة), طالعت, كمًا هائلاً من الجدل العربي الذي لم يتوقف عند الفيلم, بل تجاوزه إلى عراك حاد حول شخصية صلاح الدين, والأساليب الملتوية للغرب, والمؤامرات التي تدس السم في العسل. وهو جدل يعكس أول ما يعكس الروح غير العملية في معالجة أمورنا الراهنة وكأننا نعيش خارج اللحظة, ولا نزال ننتمي  إلى حفريات طائفية وشعوبية وعرقية بغيضة, بينما المركب العربي الذي يقلنا جميعا يعاني ثقوبا فادحة تتطلب المعالجة والتآزر حول قيم جامعة حتى لا يغرق عالمنا العربي والإسلامي كله, في محيط صاخب من الفوضى ليلامس قيعان تخلف أكثر ظلمة مما نحن فيه.

لقد لفت نظري, عبر مشاهدة الفيلم, أن المخرج, الذي هو بلا أدنى شك غربي التوجه, وإن كان جادا في محاولته تحقيق الموضوعية, من وجهة نظره بالطبع, لفت نظري انه ابتكر من المخيلة شخصية بطل غربي ليواجه شخصية صلاح الدين التاريخية الواقعية, وكأنه لم يجد في فرسان الحملات الصليبية الأوربيين شخصية كفؤة للتحاور مع البطل العربي المسلم. وبمعنى آخر, نجد أن رمز البطولة المتحضرة لدينا موجود بالفعل التاريخي, بينما الآخرون يبحثون عن بطل في المخيلة ليملأ ثغرة تاريخية, بهدف التحاور مع اللحظة الراهنة والإحالة إليها. كان طبيعيا أن يهتم المخرج ببطله الغربي أكثر من اهتمامه ببطلنا, خاصة أن بطله وليد مخيلته  الفنية الإبداعية, ويكفيه اعتدالا أنه لم يشوه بطلنا. بينما الأمر الغريب أن نجد لدينا من يستكثر على صلاح الدين حتى هذه الإشادة المحدودة من عقل غربي, وينطلق في محو كل فضيلة لبطلنا التاريخي, لا من منطلق أنه بشر وله أخطاؤه في الحكم وفي الحياة, لكن – مع الأسف – من منطلق التعصبات الطائفية والعرقية والشعوبية التي لا تدري أنها تعمل ضد نفسها. فنحن جميعا, بكل ألوان الطيف العربي والإسلامي, في حاجة إلى كل شعاع ضوء من ضمائرنا المعتدلة والعادلة, لنرحب بكل ضوء – مهما ضؤل – من ضمير عادل بعيد, في الزمان أو المكان, من بين ظهرانينا, أو من الغرب الغريب, لعل القدس – مملكة الضمير – كما وصفها فيلم ريدلي سكوت – تعود إلى إضاءة الضمير الإنساني والاستضاءة به, فما يحاك للقدس الآن معتم ومظلم وظالم, وهو أمر يستدعي منا وقفة, بل وقفات.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*