العرب.. وتلك الخريطة الشيطانية

  • (خريطة الدم) التي رسمها مؤلف روايات إثارة ورعب لمنطقتنا تدل على سطحية وخطورة بعض (الإستراتيجيين) الغربيين.
  • إعادة تمزيق المنطقة العربية بناء على أسس طائفية ومذهبية وعرقية ينسف فضيلة التعايش ويدخل المنطقة والعالم في دوامة دموية مخيفة.
  • القومية الثقافية على أساس لغوي ليست نوعًا من التنظير البعيد عن الواقع بل هي حقيقة ماثلة في ثقافة كل أو معظم سكان العالم وخاصة المنطقة العربية.
  • لغتنا ليست مجرد أداة للتواصل بل هي وعاء للتفكير وتعبير عن الوجدان وهي تشكل الإنسان بقدر ما يشكلها فتصير هوية لا يمكن ولا ينبغي تجاهلها.

يبدو أننا أصبحنا من الضعف لدرجة تحوّلنا إلى حقل للتجارب، يختبر فيه مؤلفو روايات الإثارة وسيناريوهات (الأكشن) مدى جموح أخيلتهم، لكن الأخطر من ذلك هو أن هناك في هذا العالم من يتلقف هذه السيناريوهات الجانحة، ويحاول تحويلها إلى واقع محتمل، ولأنه لا ينطلق من المعطيات العميقة لواقع وحقائق منطقتنا العربية، فهو سطحي، وبسبب هذه السطحية يلوي أعناق الحقائق، بل يقطعها، فلا يعدنا إلا بمزيد من الآلام والدم.

 

(رالف بيترز) Ralph Peters مؤلف روايات إثارة ورعب، وكاتب مقالات في عديد من الصحف الأمريكية، إضافة إلى أنه يعمل بالدراسات الاستراتيجية أحيانًا، له واحد وعشرون كتابًا في مجالات مختلفة، بينها أربعة كتب في (الاستراتيجية)، أبطال رواياته كلهم عسكريون يحلون المعضلات على طريقة رامبو، ومؤلفاته الاستراتيجية لا تبتعد كثيرًا عن ذلك. من بين كتبه (حديقة الشر)، و(نيران الجحيم)، و(بزوغ الأبطال) وهي عناوين تفصح عن توجهها، وأبطال أعماله – كما سلفت الإشارة – كلهم عسكريون خارقون يجترحون المستحيل. وإذا تغاضينا عن رواياته، فإن ما يلفت النظر بالنسبة لنا هو تخريجاته (الاستراتيجية)، التي تنشرها كبريات الصحف وتبرزها شاشات المحطات التلفزيونية الأمريكية، وهو يستند إلى مؤهل مريب قوامه خبراته في 60 بلدًا من بلدان العالم، كما تقول سيرته المصاحبة لترويج مؤلفاته على صفحات الإنترنت، أما أخطر ما يمثله رالف بيترز – فهو تبعًا لموجز سيرته – تأثيره في دوائر اتخاذ القرارات المدنية والعسكرية، ويقال إنه ضابط رفيع متقاعد أيضًا، وهذا مما يزيد من خطورة أحلامه أو توهماته. وفي عدد يوليو الماضي من مجلة القوات المسلحة Armed Forces Journal، نشر مقالاً تحت عنوان «حدود الدم – كيف يبدو الشرق الأوسط، أفضل؟» Blood Borders – How better middle East Would look ومع المقال الذي يبدو كسيناريو من سيناريوهات الرعب المعدة لمنطقتنا، أرفق خارطتين إحداهما لمنطقتنا كما هي عليه اليوم، والثانية للمنطقة ذاتها، وإن بدا أن شيطانًا مزقها شر ممزق، فلايكاد عربي يتعرف على وطنه، ولا مسلم أن يدرك أين توجد حدود بلاده وبلاد الإخوة والجيران. ويمكن لمن يريد أن يتعرف على أصل المقال وصورة الخارطتين أن يجد ذلك على شبكة الإنترنت في الموقع التالي:

http://www.armedforcesjournal.com/2006/06/1833899

ولأن قراءة المقال, ومشاهدة الخريطة المقترحة لإعادة تقسيم المشرق العربي, تحت عنوان «الشرق الأوسط» المزعوم, يمكن أن تصيب بالصدمة، فلا بأس من استباق الأمور بالبدء من نهاياتها، ففي نهاية هذا المقال قدم مؤلف روايات الرعب (رالف بيترز) مسردًا للدول التي ستكسب, والأخرى التي ستخسر عند تنفيذ خارطته شيطانية المخيلة للشرق الأوسط, الذي يراه أفضل باقتطاع جزء من هنا وإلصاقه هناك، أو استئصال شريحة من أمة هنا، وإلصاقها بأمة هناك. وسيكون المقال وخارطتاه صدمة لكثيرين من الوهلة الأولى، لكن مع قليل من التفكير والتأمل سنجد أن هذه التمنيات الشريرة إن تكرست ووجدت من يعمل على تحقيقها، فلن نجد من يكسب فيها، وكل ما في الأمر أن هناك من ستكون خسارتهم أكبر أو أقل من غيرهم، لكن الكل خاسر، ليس في المنطقة العربية والعالم الإسلامي وحدهما، بل العالم بأسره، وفي مقدمة خاسريه هؤلاء الذين ينظر لهم أمثال رالف بيترز، تنظيرًا وتخطيطًا يبدو ماكرًا ومحكمًا, لكنه في حقيقته لا يعدو أن يكون نوعًا من التهور الفكري والغرور الاستعلائي على الغير، الذي يفتقد العمق والحساسية المتعلقين بالخصوصية الثقافية، التي هي جوهر نقدنا لما ذهبت إليه تنظيرات هذا الكاتب وخريطته المشئومة والموسومين معًا بعنوان (حدود الدم).

خارطة الفوضى

في مقاله والخارطة التي يقترحها يرسم المؤلف ملامح لخارطة (شرق أوسطية جديدة) منطلقا من الافتراض بأن «الحدود بين الدول غير مكتملة وغير نهائية»، وأعطى مثالاً بقارة إفريقيا التي تكبدت ملايين القتلى وبقيت حدودها الدولية من دون تغيير، ثم عبر المثال بقفزة تاريخية وجغرافية غير مقنعة بالشرق الأوسط الذي رآه ملتهبًا ومتوترًا منذ عقود – دون أن يتوقف لحظة أمام السبب الرئيس لهذا التوتر، وهو العدوانية الإسرائيلية – ثم دخل في حديث به بعض حق يراد به الكثير من الباطل، فقال إن «الحدود التي شكلتها أوربا الكولونيالية (ويقصد الإمبراطوريتين الاستعماريتين الفرنسية والبريطانية)، للعالم العربي والإسلامي في أوائل القرن العشرين، كانت عبئًا على الدول المتشكلة تحت وطأة ظروف تتلخص في حال الهزيمة التي كانت تعانيها هاتان الإمبراطوريتان الاستعماريتان الآفلتان، حيث اتسم هذا التشكيل بعدم الإدراك لخطورة تقسيم قوميات متجانسة على جانبي حدود مختلفة وأصبحت كتلاً قومية كبيرة مبعثرة على جوانب لحدود عدة دول، ومن ثم صار هذا التقسيم الكولونيالي يحشر في الكيان السياسي الواحد عدة إثنيات وطوائف متناحرة».

وانطلاقًا من ذلك يرى الكاتب أن حدود الشرق الأوسط تسبب خللاً وظيفيًا داخل الدولة نفسها وبين الدول المتجاورة من خلال أعمال موجهة «ضد الأقليات القومية والدينية والإثنية أو بسبب التطرف الديني أو القومي والمذهبي، لأن لمّ الشمل على أساس الدين والقومية في دولة واحدة لن يجعل الأقليات سعيدة ومتوافقة». وترتيبًا على ذلك زعم الكاتب أن الخلاص لا يكون إلا بإعادة التقسيم على أساس خرائط تتحرى الوقائع الديموغرافية (التي رآها متلخصة في الدين أو المذهبية أو العرقية)، مما يعني إلغاء الخرائط «الاستعمارية» وإعادة التقسيم بضم الطوائف أو الأقليات أو المذاهب المتجانسة كل منها في كيانات مستقلة. فهو يعني باختصار تكوين دول جديدة على أسس مذهبية وعرقية وطائفية – تقسيم استعماري جديد – وهو أمر أخرق ولا يعد إلا بسفك مزيد من الدماء في تناحرات بينية واسعة يمكن أن تشعلها أقل شرارة من الفتنة هنا أو هناك. وهي فتن جهنمية يمكن أن تولد بمجرد الشروع في هذا التقسيم المزعوم أو حال تنفيذه وتحويل هذه الكيانات إلى مشروع حروب فيما بينها لا تنتهي – وربما هذا ما كانت تبشر به إسرائيل منذ عشرات السنين.

إن التقسيم والاقتطاع لتشكيل دول جديدة أو توسيع دول قديمة لا يمكن أن يمر إلا بالاتفاق، وهو أمر مستحيل لدول مستقلة ومستقرة ذات كيانات سياسية معترف بها دوليًا بالشكل الذي هي عليه،

ومنذ عقود، بل قرون أحيانًا. ومادام التقسيم والتقطيع لا يمكن أن يأتي طوعًا وبالاتفاق، فإن العمليات القسرية – بداهة – تكون هي الوسيلة المضمرة لدى الكاتب، وهي وسيلة دموية بكل تأكيد، ليس فقط حال تنفيذها، بل فيما بعد التنفيذ – إن تم – فالتقطيع والتقسيم الجديد، يخفي وراء ظهره ألغامًا أشد فتكًا من ألغام التقسيم الكولونيالي الذي فرضته الإمبراطوريتان الاستعماريتان السابقتان، لأنه لا يلزم الناس بأخلاق التعايش والتوافق داخل الدول التي يعيشون فيها، بل ينسف هذه الأخلاق باختلاق مجابهات حدودية جديدة محتملة، قوامها هذه المرة صراعات وحروب طائفية ومذهبية وعرقية تلغي العقول حال اشتعال هذه المنازعات الحدودية في هذا الشرق الجديد المزعوم، والذي تحدده خريطة «حدود الدم» بالمنطقة من شرق المتوسط حتى أفغانسان وباكستان شرقًا، ومن جنوب الجزيرة العربية حتى تركيا وآسيا الوسطى شمالاً. لكننا فيما يخص المنطقة العربية، وهي المنطقة التي يمنحها كاتب «حدود الدم» أكبر وأبشع قدر من التقطيع والتشويه، فإن تقسيمها عرقيًا ومذهبيًا وطائفيًا، ليس فقط منافيًا لفضيلة التعايش الحميد التي تحلى بها الناس طويلاً داخل الكيانات القطرية المستقرة، بل هو مناف لحقيقة روحية وثقافية وتاريخية تشكلها أهم رابطة متينة بين سكان هذا الشرق الأوسط العربي، وهي اللغة العربية وتراثها الحضاري الضارب في عمق تاريخها.

رد ثقافي

ومن المفارقات الثقافية أن ظهور مقالة وخارطة «حدود الدم» تواكب مع التفاف أنظار كثيرين من المثقفين العرب إلى كتاب أصدره الباحث ياسر سليمان بالإنجليزية عنوانه «اللغة العربية والهوية القومية» “the Arabic language and National identity” وقامت بنشره Press University Edinburgh تطرق إلى عدة أبواب أساسية ومهمة ولاسيما بحث 7 موضوع القومية العربية ودور اللغة فيها باستخدام مناهج بحث القومية والهوية كما تطورت إليه في أدب دراسات القومية في الغرب خلال العقود الأخيرة، ولكن دون التسليم بالضرورة بمقولات وأفكار هذه الدراسات. فهي إذن دراسة مقدمة للعقل الغربي، كونها تستثمر مناهجه البحثية، لكنها أيضًا تقدم لنا زادا نواجه به تخرصات من مثل ما أتت به خريطة الدم تلك.

قام ياسر سليمان بالغوص والبحث في قائمة طويلة من المراجع العربية المتناثرة بين فترات زمنية مختلفة وموزعة على رقاع جغرافية متسعة. وعمليًا فإن مسألة تقديم دراسة متخصصة في أثر اللغة في تكون القومية والهوية، لا في الحالة العربية ولكن على وجه العموم، مازال موضوعًا بكرًا، مما يجعل هذه الدراسة ذات أهمية خاصة لدارسي القومية واللغة عمومًا، ولدارسي القومية واللغة العربيتين على وجه الخصوص. وتزداد أهميتها في وقتنا الراهن الذي يتم فيه العمل على قدم وساق للتنظير للقضاء على آخر حصون الهوية الثقافية العربية، بتنظيرات سطحية كما في خارطة الدم.

كذلك، فإن الدراسة تجذب انتباه باحثي الهوية والقومية إلى الحالة العربية التي ظلت إلى حد بعيد خارج نطاق اهتماماتهم وخارج إطار الميادين التي يؤسسون نظرياتهم وأطروحاتهم استنادًا إليها. ولعل لفت الانتباه في هذه الحالة يصحح الأخطاء الجسيمة في حق المنطقة العربية وشعوبها، والتي يرتكبها منظرون سطحيون يتصورون أن الأمم والشعوب مجرد نوع من الكعك الهش يمكن تقسيمه بسحبة سكين باردة هنا أو هناك. ومن الإطار النظري الذي يعتمد عليه ياسر سليمان، سيكون واضحًا لكل ذي بصر ثقافي أو بصيرة فكرية، أن اللغة العربية صانعة هوية أعمق وأوسع وأبعد مما يعنيه كثيرون من مفكري الغرب المتسرعين، أو الذين لم يعيشوا في وسط لغوي متجانس كما في الحالة العربية، وهو مما يشكل نوعًا خاصًا من القومية، يختار الباحث أن ينتمي كتابه إليها، فيكرسه لدراسة جانب من القومية في مكان بعينه، يسميه تحديدًا «الشرق الأوسط العربي».

القومية الثقافية

وقبل أن يقترب الباحث من هدفه يمضي في إجراء مراجعة نقدية موسعة للمقولات والأفكار المنتشرة في أدب دراسات القومية والهوية ليتفق مع بعضها ويرفض بعضها. فيقتبس بعض التعريفات للقومية التي تركز عادة على خمسة عناصر تشكل القومية وهي:

1 – المنطقة الجغرافية والوطن التاريخي.
2 – وجود ما يسمى بأساطير وذاكرة تاريخية مشتركة.
3 – وجود ثقافة شعبية مشتركة.
4 – منظومة حقوق وواجبات مشتركة لكل أعضاء هذه القومية.
5 – قيام اقتصاد مشترك مرتبط بمناطق معينة.

ويخرج سليمان من مناقشة تكامل أو تضارب بعض هذه العناصر إلى تقسيم القوميات لنوعين، فما يتسم بالمقومات السالفة الثلاثة الأولى يعتبر قومية ثقافية، أما المقومان الرابع والخامس فمهمان للقومية السياسية، على ما بينهما من تداخل. وبذلك يمكننا أن نرى، ويرى معنا كل من له بصر وبصيرة، أن القومية الثقافية حقيقة واقعة – بدرجة أو بأخرى – في هذا الشرق الأوسط العربي، خاصة مع توافر حد ضروري فعلي من المقومات التي تمد جذورها في الماضي، حتى يصبح بالإمكان الحديث عن قومية ذات عمق تاريخي.

أما عن دور الآخر في الدراسة فمفاهيم الهوية القومية في الشرق الأوسط العربي مبنية بطريقتين، فمن جهة تبرز أحيانًا قوة التناقض من خلال استحضار أهمية الآخر، وهي الفكرة القائمة على أهمية تعريف الذات من خلال الاختلاف عن الآخر ولكن في بعض الأحيان تتشكل مفاهيم الهوية القومية في الشرق الأوسط العربي دون إشارة مباشرة إلى الآخر.

ويشير المؤلف إلى وجود منهجين رئيسيين لتعريف القومية:

– موضوعي (objective) يركز على وجود كل أو بعض عناصر تتوافر لدى الأمم مثل الجغرافيا،والدولة، واللغة، والثقافة المشتركة، والتاريخ، وفي بعض الحالات الدين.

– ذاتي (subjective)، ويشار له أحيانًا بالعامل التطوعي للتمييز، وهنا يوجد تركيز على الإرادة في عملية تشكيل الأمة، أي على اتجاه أفراد الأمة لرؤية أنفسهم كأمة أكثر منه توافر – أو عدم توافر – عناصر موضوعية لذلك.

على أنه سواء عُرّفت الأمة ذاتيًا أم موضوعيًا فإنها ترتبط بلغة معينة تبرز هويتها. ولعل هذا البحر اللغوي العربي الذي تسبح فيه شعوب هذا الشرق الأوسط العربي يكون جامعًا مقنعًا لما هو شرط ذاتي وموضوعي في تكوين الآصرة الأعمق بين أبناء هذه المنطقة، فاللغة – لدى دارسي القومية – هي أهم أدوات العملية الاجتماعية وأدوات صناعة الإنسان، فاللغة هي الواسطة التي تجعل من الأمة «مجتمعًا متخيلاً»، وليس وهميًا كما يبدو من المصطلح، والمتخيل هنا يسكن الوجدان بشكل دائم فيلون مشاعر الناس ويحرك إرادتهم للفعل، ويعين اتجاه هذا الفعل، ومن ثم نرى ضخامة وعمق هذه الواسطة التي تربط الفرد في وقت وجيز برباط اجتماعي معين مع أبناء أمته ممن لم يرهم أو يقابلهم، لكنهم ماثلون دائًما في وجدانه. ولعل الانفعال العربي الجامع الذي يتبدى في الأفراح والأتراح التي تخص هذه الأمة العربية، لهو من الشهادات الدامغة على وجود الهوية الثقافية العربية المتجاوزة لكل الخصوصيات الجانبية، سواء كانت طائفية أو مذهبية أو عرقية أو دينية.

إن اللغة، ومنذ فجر التاريخ، كانت مقياسًا لتمييز أمم عدة لأنفسها عن الآخرين، فمثلاً قام اليونان بتمييز أنفسهم عن البربر باعتبار الأخيرين لا يتحدثون اليونانية، وقام اليهود في الأندلس باستخدام العبرية لتسجيل أمور دينهم في حين قام الأطباء اليهود في بولندا باستخدام مصطلحات طبية عبرية بدل اللاتينية، التي كان يستخدمها الأطباء المسيحيون، مما قد يكون نوعًا من السعي للتمييز الإثني. فلماذا لا تكون لغتنا العربية رابطًا يؤثر على هوية سكان هذه المنطقة، حتى لو كانت رابطة جزئية لدى البعض، فهي تظل رابطة لها وزنها المؤثر، وتأثيرها الفاعل، وطابعها المشترك والحميم بين الأقليات والأغلبيات على السواء.

الشرط اللغوي الجامع

لقد ظهرت في نهاية الفترة العثمانية كتابات تفرق بين الوطن مكانًا، والأمة جماعة، وهو أمر لا يهمله ياسر سليمان، فيتعرض لأفكار حسن المرصفي ونجيب عازوري والقاضي والأديب والعالم اللبناني عبدالله العلايلي الذي نشر عام 1941 كتابه «دستور العرب القومي»، وغيرهم من الكتّاب ممن تناولوا موضوع دور اللغة في تعريف الأمة. ويتوقف عند العلايلي الذي يرفض التعريفات الغربية للأمة. ويولي الباحث لساطع الحصري ( 1880 – 1968 ) – وهو أحد ممثلي الأيديولوجية القومية العربية – أهمية خاصة، ويلتفت إلى اهتمامه الخاص بدور التعليم في التحديث وبناء الأمة. فقد أصرّ على أن تكون العربية لغة التعليم الوحيدة في مرحلة ما بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، وعلى تعريب المصطلحات العلمية.

وتعريف الحصري للأمة يركز على العامل الثقافي أكثر من السياسي، فهو لا يرى الدولة شرطًا ضروريًا أو كافيًا لتكوين الأمة. ويبدو الحصري قريبًا من النموذج الألماني في تعريف الأمة، ولكن بينما يهتم الفلاسفة الألمان بالآخر والمقارنات التي تترتب على ذلك، يهتم الحصري بالعامل الداخلي للروابط العربية دون كبير انشغال بالأمم الأخرى، ويرفض الحصري العامية بديلاً للفصحى، لذا يرفض الربط بين الدول القائمة واللهجات العامية واعتبارها أساسًا للتقسيم، كما رفض أفكار استبدال الأبجدية الرومانية بالعربية. وهذا يشكّل محاولة تكرر فشلها كثيرًا، فهناك مَن حاول استبدال الحروف اللاتينية بالعربية، ونجح خارج العالم العربي وخارج اللغة العربية، لكنه فشل فشلاً ذريعًا عندما تعلق الأمر باللغة العربية نفسها، وهنا لابد من الالتفات إلى ارتباط هذه اللغة بالمقدس والروحي، وهو عنصر فاعل أعمق الفعل في دعم مؤثر اللغة كمقياس للهوية، حيث تصير اللغة ليست مجرد بعد مادي، بل معنوي وروحي أيضًا.

في الشرق الأوسط العربي

إن الهدف الرئيسي لهذا الكتاب هو إظهار هيمنة اللغة في الصياغة الأيديولوجية للهوية القومية في الشرق الأوسط، فصياغة القومية العربية سواء أكانت جنينة غير ناضجة أو متشكلة كليًا فإنها غالبًا ما بنيت حول إمكانات العربية الفصحى وخصائصها محورًا للهوية لكل هؤلاء الذين يتقاسمونها كلغتهم المشتركة، فتعريف العرب مرتبط باللغة العربية. لذا فإن صلة حتمية تم تأسيسها بين اللغة والهوية القومية في خطاب من هذا النوع. هذا ما يتضح من النقاشات في الشرق الأوسط في العقود الأخيرة من العهد العثماني، وما بعد الحرب العالمية الأولى، والتي مثلت عصب المادة، التي بنى الكاتب تحليله عليها، لافتًا في الوقت ذاته في نهاية كتابه إلى قائمة ليست قصيرة لموضوعات يدعو باحثي علماء اجتماع اللغة العربية لدراستها والتوقف عندها. إن اللغة ليست مجرد إشارات صوتية ذات دلالات عابرة، إنها تصوغ الكيانات التي تنتج عنها، فاللغة تشكّل الكائن البشري بقدر ما يشكلها هذا الكائن، وهي تطبع نفسه وروحه وذوقه بطابعها، خاصة عندما يكون هناك مرجع أكبر لهذه اللغة، تلتف حوله أفئدة سكان هذه المنطقة جميعًا، وهو القرآن الكريم. واللغة العربية هي الجامع الأكبر لكل العرب على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وأديانهم، وحتى قومياتهم العرقية، فأدب أبناء هذه المنطقة جميعًا وأغانيهم، وأشواقهم، وأحلامهم، وآلامهم، تنطق كلها بالعربية. فلماذا يقدمون لنا سكاكين الفرقة، ويرسمون لنا حدود الدم، مادام هناك هذا الرابط الروحي والثقافي والتاريخي المتين؟!

إنهم يعون ذلك جدًا، لذا فهم يسعون بلا ملل أو كلل لهدم هذه الثقافة الموحدة، ليسهل دائمًا السيطرة والتحكم في ثروات ومصائر هذه المنطقة وشعوبها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*