جذور ثقافة الفتنة

  • ثقافة الفتنة لا تستهدفنا وحدنا، بل تستهدف حضارة الإنسان ووجوده الخلاّق على هذا الكوكب، وتطيح بدوره النبيل الذي هيأه الله له لإعمار الأرض.
  • كتابات «هنتنجتون» عن صراع الحضارات وتخرصات برنارد لويس عن الإسلام والمسلمين، كانت تمهيدًا من مثقفين مشوهين لإذكاء مخرجات التشوه الثقافي.
  • الإساءات وما وراءها تهدف لوصم العرب والمسلمين لغايات لا علاقة لها بالأديان أو الثقافة أو الحضارة، بل لتبرير التدخل والتدمير من صنّاع الفتنة في العالم.
  • الأسلوب المتحضر للعرب والمسلمين في ضبط النفس ردًا على فتنة الفيلم المسيء جعل كثيرين من مفكري الغرب يدينون هذا الفيلم وما يمثله من تشوه.

          إنها حقًا فتنة، فتنة لا تستهدف عالمنا العربي والإسلامي وحده، بل فتنة تستهدف حضارة الإنسان وعيشه الآمن على كوكب الأرض، فتنة لها جدول أعمال لا علاقة له بالأديان، بل بمصالح ومطامع. وكل الأديان منها براء. لكن المؤلم أنها هذه المرة تستخدم أدوات ثقافية، مما يوجب علينا أن نراجع جذورها، لنكتشف أنها تشوهات حمل لواءها مثقفون مشوهون، بشروا بهذا الصراع المفتعل، ونظّروا له، فمهدوا للفتنة، والفتنة فخ منصوب للجميع، لنا كما لغيرنا.

 

كنت أود أن أواصل حديثًا بدأته عن مصير القيم في عالم مضطرب،لكنني لم أستطع – حال شروعي في الكتابة – أن أتجاهل صخبًا يصك الأسماع آتيًا من بعيد، من الغرب، ليتجاوب معه صخب قريب، من عالمنا العربي والإسلامي، ومن الجانبين يتكون ضجيج لم يعد ممكنًا تجاهله، خاصة وهو يختلط – خطأ وإساءة – بمفهوم الثقافة، كما أنه – في رأيي – ضجيج ناتج عن مقدمات ساقها مثقفون مشوهون، فالموضوع كله يدخل في إطار ثقافة الفتنة، التي هي بلا ريب أشد من القتل، لأنها تفتح أبواب الشر لإهدار الطاقات والأرواح وحضارة الإنسان جميعًا، بمعنى أنها لا تستهدفنا وحدنا، بل تستهدف حضارة الإنسان ووجوده الخلاق على هذا الكوكب، وتطيح بدوره النبيل الذي هيأه الله للإنسان، وهو إعمار الأرض.

ما يسترو مشوه يعطي إشارة البدء

فجأة، وكأنما استجابة لإشارة «مايسترو» مشوه الروح، تعالت نغمات نشاز مصدرها بعض أركان الغرب المنزوية، وربما المعتمة، وتدفق علينا سيل من النشاز المنسوب زورًا للثقافة، فنًا وأدبًا، سينما ومسرحًا ورسومًا، ففي هولندا ظهر شيء يسمونه فيلمًا أعده نائب برلماني يميني محدود القيمة اسمه كيرت فيلدرز، يستغرق «الفيلم» المسمى «فتنة» 15 دقيقة، ويُظهر آيات من القرآن تتلوها مشاهد لاعتداءات ارتُكبت في الفترة المنصرمة، مثل هجمات الحادي عشر من شهر سبتمبر من عام 2001 على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ثم تظهر جثث متناثرة لضحايا تفجيرات قطارات مدريد، وتليها الصور المثيرة للرعب للهجمات التي استهدفت كلا من لندن والصومال، ويتضمن الفيلم صورًا لامرأة تتعرض للرجم ومشاهد من عملية قطع رأس شخص وصورًا للمخرج الهولندي ثيو فان جوخ الذي قتل على يد مسلم يحمل الجنسيتين الهولندية والمغربية عام 2004. كما يحتوي الفيلم على مشاهد تصور متظاهرين مسلمين وهم يرفعون لافتات كتب عليها «فليرحم الله هتلر» و«فلتذهب الحرية إلى الجحيم». ولم يستثن الفيلم أطفالنا حيث تظهر طفلة مسلمة ترتدي غطاء رأس وهي تقول إنها تكره اليهود. ويعرض الفيلم مشاهد ورسومًا بيانية تظهر تزايد عدد المسلمين في هولندا وأوربا. وينتهي الفيلم بلقطة بالغة الفجاجة والانحطاط الحضاري، حيث يظهر شخص يقلب صفحات نسخة من القرآن ثم يتلو ذلك صوت مدو لتمزيق شيء ما. مما يفصح عن الهدف الذي توخاه الفيلم، فهو لم يتوقف هذه المرة عند اتهام العرب والمسلمين بالإرهاب والتخلف في تعميم لا منطقي ولا أخلاقي كما في محاولات سابقة في هذا الاتجاه، بل تجاوز ذلك إلى استهداف العقيدة نفسها،وهو أمر اتفقت البشرية على عدم المساس به ضمن المنظومة الحضارية لاحترام حقوق الاعتقاد وقدسية الأديان.

في الوقت نفسه تقريبًا عرض مسرح قرب العاصمة الألمانية برلين مسرحية مأخوذة عن رواية «آيات شيطانية» لمؤلفها الكاتب البريطاني الجنسية الهندي الأصل سلمان رشدي. التي أثارت لغطًا عنيفًا من قبل، وقضى بسببها أكثر من عقد في الخفاء بعد صدور فتوى بإباحة دمه في أعقاب إصداره تلك الرواية باعتباره مجدفًا. وقد تمت دعوة رشدي لحضور افتتاح المسرحية غير أنه لم يحضر، حتى في ظل حراسة مشددة خوفًا من تظاهرات تحاصر المسرح.

وبمواكبة هذين الحدثين المريبين قام بابا الفاتيكان خلال الاحتفالات بعيد الفصح «القيامة» بتعميد صحافي كان منتسبًا إلى الإسلام، وعُرف عنه كتاباته المنتقدة لما يسمى «التطرف الإسلامي»، إضافة لتأييده الفج لعدوانية إسرائيل.

استنكار غربي

ثلاث وقائع تحريضية بشكل زاعق، اندفعت باتجاهنا في وقت واحد، مما يقطع بأنها ليست توجهات فردية، ولا سوء تقدير منفلت من البعض، بل هي تعبير عن توجه بغيض، يهدف إلى الإثارة، ويسعى لتفجير غضب عربي وإسلامي مطلوب لأهداف معينة، تخدم في حدها الأدنى مزيدًا من تشويه صورة العرب والمسلمين. لكن الجيد هذه المرة، أن رد الفعل العربي والإسلامي تميز بدرجات غير مسبوقة من العقلانية وضبط النفس، فجعل كثيرًا من العقلاء والمتحضرين غير المسلمين يبادرون بإدانة هذه الاستفزازات والتجاوزات المستهدفة للفتنة، وهو أمر علينا أن نستخلص منه درسًا نتذكره، حيث لن تكف محاولات إثارة الفتنة. ولننظر إلى بعض ردود الأفعال المتحضرة هذه:

– كتب ريتشارد أوين في صحيفة «التايمز» تعليقًا على فعلة البابا قائلاً: إن بابا الفاتيكان، بنديكتوس السادس عشر، يخاطر بتجديد الشقاق مع العالم الإسلامي بقيامه بتعميد صحافي ترك الإسلام، وكان قد عرف بانتقاداته له.

– وقال رئيس الوزراء الهولندي «يان بيتر بالكانندا» تعقيبًا على الفيلم المسيء: «إن حكومته ترفض التفسير الذي أعطاه فيلم «الفتنة» للإسلام والذي أخرجه، كيرت فيلدرز رئيس حزب الحرية اليميني. وأضاف «بالكانندا» خلال مؤتمر صحافي عقده بعد وضع الفيلم على الإنترنت: «إن الفيلم يساوي بين الإسلام والعنف، ونحن نرفض هذا التفسير». أعتقد أن الفيلم لا يخدم أي هدف ما عدا الإساءة. لكن الإحساس بالإهانة يجب ألا يُتخذ ذريعة لارتكاب العدوان وإلقاء التهديدات».

– رفضت وسائل الإعلام الهولندية نشر الفيلم، وحمل عدد من المتظاهرين الهولنديين الذين ساروا في وسط أمستردام لافتات تقول «أوقفوا ملاحقة المسلمين».

– وقال رينيه دانين، الناطق باسم منظمة «هولندا تعرض ألوانها» المناهضة للعنصرية التي نظمت المظاهرة: «لا يمكننا السكوت أكثر من هذا» مضيفًا أن «هناك مناخًا من الكراهية والخوف في هولندا».

– استنكر الأمين العام للأمم المتحدة «بان كي مون» فيلم «فتنة» الذي تم بثه على شبكة الإنترنت، معتبرًا إياه «معاديًا للإسلام بصورة مهينة». وقال بان كي مون: «أنا أندد، بكل صرامة، بإذاعة فيلم كيرت فيلدرز المسيء للإسلام بشكل مهين». وأضاف: «إن حرية التعبير هنا ليست هي الموضوع، ينبغي لحرية التعبير أن تكون مرفقة بروح المسئولية الاجتماعية».

– اعتبرت الرئاسة السلوفينية للاتحاد الأوربي أن الفيلم لا يهدف إلا إلى «تأجيج الحقد».

إنها ردود أفعال مضادة للإساءات، ومناقضة للفتنة، ومن ثم هي حضارية في جوهرها، وواعية لأن الفتنة ليس مقصودًا منها النيل من العرب والمسلمين وحدهم، بل هي فتنة تستهدف الحضارة الإنسانية ولمصلحة غايات غير حضارية وغير إنسانية، وإن بدت ذات أصول ثقافية.

جذور التشوه

لقد كتب فيلدرز تعليقًا في صحيفة هولندية قال فيه: «إن الأيديولوجية الإسلامية لديها هدف نهائي يتلخص في تدمير ما نعتبره أغلى ما عندنا وهو حريتنا، والفيلم – فتنة – هو آخر تحذير للغرب».

هذا الكلام يكاد يكون هو نفسه الذي سبق أن ساقه منظرو ثقافة الفتنة، وأشهرهم البروفيسور صموئيل هنتنجتون، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، عام 3991، في إطار فرية «صراع الحضارات» والتي مفادها أن «المشكلة التي يواجهها الغرب المسيحي مع الشرق الإسلامي، ليست المتطرفين الإسلاميين، وإنما الإسلام نفسه». وكانت فرية هنتنجتون تستند إلى إدّعائه بأن المسلمين يؤمنون بأن حضارتهم الإسلامية متفوّقة على الحضارة الغربية، ولكنهم في الوقت نفسه يشعرون بالمهانة من الضعف الحالي للمسلمين في عالم اليوم، لذلك، سيصبح الإسلام العدو الجديد للغرب بعد انتهاء الحرب الباردة، وسيعود الصراع الدولي إلى خطوطه الأصلية التاريخية، كصراع بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي، وأن هناك صراعًا أو صدامًا بين الحضارات. وقد قال هنتنجتون نصًا: «إن المصدر الأساسي للصراع في العالم سوف لن يكون أيديولوجيًا أو اقتصاديًا، بل إن العنصر الثقافي هو الذي سيكون العنصر الرئيس للصراع، فالدول ستبقى الفواعل الأكثر قوة في الشئون الدولية، إلا أن الصراعات سوف تحصل بين الأمم والمجموعات المختلفة في حضاراتها، وبذلك فإن الصراع ما بين الحضارات سوف يهيمن على السياسة الدولية».

تعرية ثقافة الفتنة

لقد تصدّى لمشروع الفتنة الذي بشرت به ومهّدت له نظرية صراع الحضارات، مفكرون عديدون أبرزهم إدوارد سعيد الذي أعطى مداخلته عنوانًا دالا، هو «تفكيك صراع الحضارات»، كما أن الصحفي العربي الأمريكي، عزيز فهمي، مراسل قناة «إم بي سي» الفضائية في واشنطن منذ عام 1991 أمضى أكثر من ثلاثة أعوام في دراسة مستفيضة، نشرها في كتابه: «إسقاط نظرية صراع الحضارات وإعادة تقديم الإسلام للعقل الغربي».

وفي هذا الكتاب يرى عزيز فهمي أن هنتنجتون أغفل أكثر من ألف عام من الصراع الدولي بين شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من جهة، والشعوب الأوربية من جهة أخرى قبل الفتح الإسلامي، ليتجاوز حقيقة تاريخية مهمة هي أن الإسلام لم يبدأ الصراع الدولي بين الشرق والغرب، وليغض الطرف عن حقيقة أن ذلك الصراع كان صراع مصالح وبسط سيادة ولم يكن صراعًا دينيًا أو صدام حضارات.

وتساءل المؤلف «إذا كان الدّين، كما يدّعي هنتنجتون، هو المسئول عن الحروب والصراعات في التاريخ الإنساني، فبم يمكن تفسير أن العلمانيين في الغرب المسيحي، الذين نجحوا في فصل الكنيسة عن الدولة والسياسة عن الدين، هم الذين خاضوا أكبر حروب في تاريخ الإنسانية، وهما الحربان العالميتان الأولى والثانية»؟

وفي السياق نفسه، قال المفكر العربي محمد عابد الجابري: إنه لا وجود لصراع الحضارات، بل إن صموئيل هنتنجتون حصر هدفه في الدعوة إلى الحفاظ على مصلحة الغرب، وأن النموذج المهيمن على الفكر الغربي هو نموذج (الأنا) التي لا تتعرف على نفسها إلا عبر (آخر) تختاره هي أو تشكّله وتصنعه بالصورة التي تجعله قابلاً لأن يقوم بالوظيفة التي تريدها منه وظيفة تأكيد (الأنا) لنفسها.

ولم يكن المفكرون العرب والمسلمون، أو ذوو الأصول العربية، وحدهم مَن تصدّى لثقافة الفتنة، التي أعلى لواءها هنتنجتون وأضرابه أمثال برنارد لويس، فهناك مفكرون غربيون نابهون بادروا إلى هذا التصدي، منهم المؤرخ المعروف «ريتشارد بوليت» في كتابه The case for Islamo Christian Civilization والذي بيّن فيه أن عوامل التوافق بين الحضارتين الإسلامية والمسيحية أكثر من عوامل الصراع بينهما، وأن الفجوة بينهما يمكن ردمها تدريجيًا.

مطلب الحكمة والتعقّل

إن وعينا بالتشوّه الذي يكتنف بعض المخرجات الثقافية، رسومًا كانت أو مسرحيات أو أفلامًا أو تنظيرات، مسيئة، ينبغي ألاّ يقودنا إلى ردود فعل مشوّهة، ولقد أحسن العرب والمسلمون – في الأغلب الأعم – عندما تعقلوا ولجأوا للحكمة وضبط النفس في الرد على هذه الإساءات ذات المظهر الثقافي، فأتاحوا لكثيرين – من قلب الثقافة الغربية نفسها – أن يشهدوا شهادة حق وعدل بالتحضّر والرفعة والتسامي في جوهر المعتقد الإسلامي، وكان هذا طريقًا مضادًا للسير باتجاه صراع الحضارات، واختيارًا ثقافيًا متحضرًا نحو حوار الحضارات،

وهذا بعض من سبيل النهوض الذي ينبغي أن نحرص عليه، لنجهض أي فتنة في رحاب الثقافة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*