قبل الحوار مع الآخر

على مدى العقد الأخير ارتفعت نبرة أصوات عديدة تقترح حوارًا عربيًا مع الآخر الغربي، بعد سلسلة متعاقبة من سوء الفهم المتبادل، ازدادت حدته عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي أسفرت عن تكون صورة شديدة السلبية في الذهنية الغربية، على مستوى النخب والجماهير، حول كل ما يتعلق بالعرب والإسلام. الأمر الذي أدى إلى اختزال كل ما يتعلق بالعرب والإسلام في صورة واحدة عنوانها «الإرهاب»، وعناصرها التطرف، والتنظيمات السرية التي ترفع شعارات دينية وتتمسح في الإسلام، بالإضافة إلى بعض رموز هذه التنظيمات من الأسماء التي تتردد على ألسنة الغربيين، والعرب في الواقع، بوصفها أيقونات للعداء للغرب والحضارات التي تنتمي إليها.

  • ليس من طبائع الأمور أن نطالب بالحوار مع الآخر، بينما نحن في الداخل العربي نفتقد أدنى قواعد وأسس الحوار الداخلي
  • أي حوار حقيقي مبتغى بيننا وبين الغرب، لا بد أن يقوم على أسس من النديّة، حتى يتجاوز كل تلك العراقيل الثقافية بين الجانبين
  • المؤسسات التعليمية مطالبة بتعليم النشء أن الاختلاف جانب بديهي من الطبيعة البشرية
  • الأجهزة الإعلامية العربية، ينبغي أن تعيد النظر في نوعية البرامج الدينية التي تقدمها، وأن تتجنب بث البرامج التي من شأنها إثارة النعرات الطائفية

 

ولا شك – في الحقيقة – في أهمية ذلك الحوار بين العرب والغرب، وانتقاله من مستوى الدعاية والإعلام، وتحصيل الحاصل، كما سارت عليه الأمور لسنوات، إلى مستوى الحوار الحقيقي الذي يتضمن أفكارا يطرحها جانبان متعارضان من أجل استجلاء الحقائق، وكشف الوقائع من الأوهام.

كما أنه من الضروري أيضا أن يأخذ هذا الحوار مستويات عديدة من حيث طبيعة أطرافه، تبدأ من مستوى المؤسسات الدينية، وتمتد إلى الحوار بين النخب الفكرية والثقافية وصولا إلى حوار المصالح الاقتصادية، ثم طرحه على مستويات أخرى، بحيث يحقق الهدف المرجو منه، أولا بتنقية صورة العرب والإسلام من شوائب عديدة ألصقت بهما زورا، وكشف الجوانب الإيجابية للحضارة العربية الإسلامية، ولمظاهر التحضر والتسامح التي تزخر بها صفحات التاريخ من جهة، وشواهد لا يعدمها الواقع من جهة أخرى. بالإضافة إلى تقديم الصورة الحقيقية أيضا للغرب، فهو ليس شرا كله، ولا يمكن النظر إلى حضارة كاملة باعتبارها عدوة لديننا وعقيدتنا، لأن فيها من يبادلنا العداء، أو يضمر لنا نظرة سلبية انتقادية.

لكن الحقيقة أن مثل هذا الحوار الضروري لا يمكن أن يتحقق، بل وقد يصبح مستحيلا، كما قد تبدو الدعوة إليه نوعا من الترف واللاواقعية، إذا لم يسبقه حوار داخلي، بين أطراف هذه الحضارة العربية الإسلامية ذاتها.

فليس من طبائع الأمور أن نطالب بالحوار مع الآخر، بينما نحن في الداخل العربي نفتقد أدنى قواعد وأسس الحوار الداخلي بيننا في أجواء يغلب عليها غياب كامل لمعنى الحوار ذاته، أو تقدير قيمته، كلون من تبادل الآراء، ينصت خلاله كل طرف للآخر، عن رغبة حقيقية، وبموضوعية، بحيث يتحقق منه الهدف الأساسي والجوهري وهو التعايش، والتواصل مع الأفكار والقيم المختلفة عبر تقدير كل طرف للآخر، مهما اختلفت اقتناعاتهم.

إن نظرة شاملة على الساحة العربية الآن كفيلة بأن تكشف لنا مدى التناقضات التي نعيشها عبر ارتفاع نعرات طائفية وعرقية عدة، لعل أبرز مظاهرها وتجلياتها تكشف عن نفسها في العراق، حيث تلاحقنا أخبار النزاعات واتهامات التكفير، وأعمال القتل التي تكشف غياب العقل، لمصلحة نزعات طائفية ساذجة يعتقد أنصار كل منها أنهم الأصوب، وأنهم يمتلكون الحقيقة كلها، وأنه لا حل لدى أي منها سوى إبادة كل من يختلف معها.

وليس العراق وحده هو الذي يجسد المسرح الرئيسي لهذه الظواهر، فهناك أطياف لمثل هذه الظواهر الطائفية والعرقية في فلسطين التي باتت تعاني أزمة داخلية عميقة، تعكس نموذجا صارخا لغياب الحوار الداخلي، بالشكل الذي أدى إلى انشقاقات وتصدعات حادة في جدار المقاومة الوطنية ضد المحتل الإسرائيلي، وتصدعات لم يخطر على بال العرب جميعا أن يشهدوا مثلها يوما، وهناك أيضاً لبنان الذي كان يمثل النموذج الذي يطمح العالم العربي لاقتفاء أثره في الديمقراطية والحرية الفكرية.

كما أن هناك أطيافا أقل حدة للظاهرة نفسها في المشرق العربي، وكذلك في مصر، وهنا في منطقة الخليج. وصحيح أنها ربما قد لا تصل إلى حدة ودموية ما يجري في العراق، لكنها تظل دليلا لا شك فيه على أن الذهنية العربية في مجملها تفتقد القيم التي تقوم عليها فكرة الحوار، والتفاهم والتعايش، وهو ما قد يؤدي إلى كوارث كبيرة في المنطقة العربية، إذا لم يتم تداركها، ومواجهة أسبابها، والأطراف التي تذكي من نيران الاختلافات والفرق والفتن.

عقلية التحريض

واليوم نسمع عن دعاوى التفريق بين المسلمين من السنة والشيعة، في منابر إعلامية عديدة، بشكل يبدو مريبا ومخيبا للآمال، ومن دعاة، ورجال دين من الثقات. كما تتبارى مواقع الإنترنت في إذكاء هذه الروح التي تتمثل العقلية التحريضية، وتتبنى الذهنية التي تنفي الآخر، وتعاديه، دون أي مراعاة لجوهر الأديان التي تقوم في الأساس على التعايش، وإشاعة التسامح والسلام.

المشكلة أن مثل هذه الفتن تجد لها أرضية كبيرة في منطقتنا العربية، وعادة ما يكون من السهولة بمكان تجييش جماهير من البسطاء، وعوام الجمهور العربي، خلف الفكرة الطائفية والعرقية، لانحدار مستوى الوعي، ومستوى التعليم، وسيادة ثقافة سطحية اعتمدت التلقين لعقود، على حساب العقل، وبسبب غياب قيمة الحوار في الثقافة العربية العصرية، وشيوع مفاهيم رسختها الشمولية والسياسات الديكتاتورية على مدى عقود طويلة.

فهناك، على سبيل المثال، سمة عربية بامتياز تتمثل في الجدال، وتبادل الآراء بالصراخ. من الصعب أن تجد برنامجا حواريا في أي قناة من الفضائيات العربية، يتمكن فيه المتحاورون من النقاش بهدوء، وبالشكل الذي يسمح فيه أطراف النقاش بتداول الفكرة. وهو ما يسهم أولا في نفي كل طرف للآخر عبر عدم الإنصات، والاكتفاء بالمونولوج الداخلي، وفورة الصراخ بالفكرة الوحيدة التي يمتلكها المحاور، وهو ما يؤدي إلى القضاء على أي فرصة لطرح أفكار جديدة. فضلا عما تؤسسه مثل هذه الأساليب اللاديمقراطية في عقول شبابنا وأطفالنا الملتصقين بشاشات التلفاز ساعات وساعات كل يوم.

واليوم يمكن أن نلاحظ أن غياب قيمة الحوار ليس حكرا على معسكرات متعارضة مثل الحكومات وقوى المعارضة مثلا، وإنما حتى على مستوى الفريق الواحد. فليس من الصعب على أي مراقب أن يلاحظ غياب الحوار بين طوائف المعارضة، في أكثر من قطر من الأقطار العربية، بالرغم من وحدة الفكرة والهدف الذي تسعى إليه في مجموعها، وهو ما قد يتسبب في إضعاف قدرتها على تحقيق هدفها في النهاية، وتحول دورها من النقد الموضوعي القادر على تشخيص الداء واقتراح الدواء، إلى مجرد موجات من الانتقاد العنيف، وحالات الغضب التي تجد في حالة المعارضة متنفسا، فتتحول إلى منابر تصرخ بالغضب، دون أن تكتسب دعما جماهيريا، أو تحظى بثقة أنصار جدد.

والحقيقة أن توصيف ما تمر به المنطقة العربية الآن، يتماهى مع مراحل التغير العنيف كما شهدها التاريخ، وكما يقول الكاتب جون كالهون: «الفترة الفاصلة بين موت القديم وتشكل وتأسيس الجديد هي فترة انتقال تتسم دائما، وبالضرورة، بالحيرة والالتباس والخطأ، وبالتعصب الجامح العنيف».

ولعل هذا ما يفسر عنف التعصب الذي تمور به أرجاء واسعة من المنطقة العربية الآن، وتصاعده، حتى يبدو أحيانا كأنه كرة ثلج، كلما سقطت وانهارت تضخمت.

شروط الحوار

ولعل السؤال الجوهري حين نتأمل موضوع الحوار مع الآخر، في إطار أزمة الحوار الداخلي يمكن طرحه على النحو التالي: ما هو مصير الحوار الذي يمكن أن يتم الآن بيننا وبين الآخر في ظل هذه الشروط؟ هل يمكن أن تتساوى أسس الحوار بين مجموعات تنتمي لثقافة نفي الآخر، وتزعم مواكبتها لروح العصر، مع جماعات ونخب الآخر التي تنتمي لمجتمعات تجاوزت الحداثة إلى مرحلة يطلق عليها ما بعد الحداثة؟

يقول الكاتب الأمريكي ديفيد هارفي في كتابه «حالة ما بعد الحداثة»: «إن التفكير ما بعد الحداثي، إذ يفتح آفاقا بالاعتراف بالأصوات، يعود فورا ليقفل على تعددية الأصوات هذه، مانعا إياها من الوصول إلى مصادر القوة والسلطة من خلال الحجر عليها داخل أسوار «الآخر» الذي لا نفاذ إليه، وبإحالة الأمر كله إلى مجرد ألعاب لغوية. وهي بذلك إنما تجرد عمليا هذه الأصوات (النساء، الأقليات الإثنية والعرقية، والشعوب المستعمرة، العاطلون من العمل…إلخ) من كل قوة فعلية لها في عالم تتحكم فيه علاقات القوة غير المتكافئة».

أي أن الحوار بيننا وبين الآخر – وفقا لهذه الشروط، وبناء على ظروف وطبيعة الحالة العربية – محكوم عليه بالفشل، لأن الغرب لا ينظر إلى المجتمعات العربية بالندية التي تقوم عليها فكرة الحوار، ومن خلال منظور المجتمعات ما بعد الحداثية كما وصفه هارفي.

كما أن ما يقوله ديفيد هارفي، يلفت الانتباه إلى أن الغرب، في محاولته الإغلاق على تعددية الصوت، على عكس ما يزعم، يبدو، كأنه يدعم تكوّن المزيد من الأقليات، والإثنيات والعرقيات، لأنها تحقق له هدفه ما بعد الحداثي، بجهد أقل، لأن تلك الإثنيات والأقليات عندما تبدأ في التناحر والنزاع، تقوم بتصفية نفسها بنفسها، والأمثلة حولنا لا تحتاج إلى توضيح.

بمعنى آخر فإن أي حوار حقيقي مبتغى بيننا وبين الغرب، لا بد أن يقوم على أسس من الندية، حتى يتجاوز كل تلك العراقيل الثقافية بين الجانبين، وحتى يفوت على الذهنية ما بعد الحداثية محاولاتها في إغلاق تعدد الصوت العربي بوصفه إما منتميا للمستعمرات القديمة، أو امتدادا لها، أو بوصفه مجتمعا يضم عددا من الأقليات والإثنيات.

ولكي تتحقق تلك الندية فإن الأطراف المدعوة للحوار، لا بد أن تتجاوز الكثير من العراقيل، بينها الوعي بالمعوقات الخاصة بتفعيل الحوار الداخلي، وهو دور لا يقتصر على النخبة العربية، فقط، وإنما لا بد أن تشترك فيه آلة الإعلام العربي، وأن تلعب دورا إيجابيا، وتبذل جهدا كبيرا في هذا الصدد من خلال تسليط الضوء على عناصر إعاقة الحوار الداخلي، وكشف مخاطر التقوقع والانكفاء على الذات، والسلبيات التي يمكن أن تنتج عن تضخيم صورة الذات.

وصحيح أن وسائل الإعلام بدأت تلعب دورا في إرساء قيمة الحوار عبر العديد من البرامج الحوارية الحية، لكنها مازالت مطالبة بترشيد هذه النوعية من البرامج بحيث ترتكز على اختيار النماذج صاحبة الصوت العاقل والهادئ، واختيار الموضوعات التي تثار فيها القضايا الحيوية والأساسية، بدلا من إثارة الصخب حول قضايا فرعية لا تبتغي سوى الإثارة الإعلامية.

مطالب إعلامية

إن الأجهزة الإعلامية العربية، ينبغي أن تعيد النظر في نوعية البرامج الدينية التي تقدمها، وأن تتجنب بث البرامج التي من شأنها إثارة النعرات الطائفية، أو تلك التي تغرس في ذهنية المشاهد كره العالم وتكفيره! كما ينبغي لها أن تتحلى بالمسئولية المنوطة بها، وتتجنب تقديم البرامج المهتمة بالشعوذة والخرافة وتفسير الأحلام وغيرها من البرامج التي تسهم في إشاعة العقلية الغيبية، بدلا من العقلية التي تتمتع بالوعي والموضوعية والقدرة على التمييز بين الخرافة والحقائق العلمية.

كما أن المؤسسات التعليمية العربية مطالبة بإعادة تقييم مناهجها، ووسائل التعليم المستخدمة فيها التي تعتمد على التلقين، وأن تستبدل بها مجموعة من أحدث وسائل التعليم التي تعلم الطالب العربي كيفية إعلاء قيمة العقل، والبحث الذاتي في القضايا كافة، لدعم تغيير الذهنية الجمعية السائدة لمصلحة تكوين ذهنية نقدية قادرة على تمييز الغث من السمين وخلق وعي جديد. كما أنها مطالبة بتعليم النشء أن الاختلاف جانب بديهي من الطبيعة البشرية، وإلقاء الضوء على العقائد الأخرى التي يعتنقها الآخر، لكشف النسيج الواسع للتنوع البشري، والتأكيد على قيمة التنوع والاختلاف.

ولا شك أن المؤسسات الدينية تقع على عاتقها مسئولية كبيرة أيضا في بحث سبل توجيه المجتمعات العربية إلى التأكيد على قيمة العقل، والتسامح، كقيمة أساسية في جوهر العقيدة، وحث الجمهور العربي على نبذ الشقاقات والخلافات المذهبية والطائفية، وفي تطوير مناهج البحث في العلوم الدينية في الجامعات الدينية والمختصة بدراسة الفقه وعلوم الدين.

ويمكن للمراكز الثقافية والمؤسسات المهتمة بالحوار بين الحضارات أن تركز على ابتكار مجموعة من البرامج الحوارية بين الأجيال الجديدة من الشباب العرب مع نظرائهم في الغرب، لمعرفة مدى اختلاف منظومة القيم التي ينتمون إليها عن مثيلتها في الغرب، وبحيث يعرف هؤلاء الشباب قيمة الحوار في وقت مبكر، وبحيث تتكون لديهم الذهنية الموضوعية القادرة على التحليل والنقد والنقاش العقلاني في عمر مبكر.

وأخيرا وليس آخرا، فإن مؤسسات النشر العربي مطالبة بأن تلعب دورا أساسيا في هذا الصدد من خلال توسيع نطاق نشر ثقافة التسامح، والحوار بين الحضارات والثقافات المختلفة، وزيادة الجهد المبذول في ترجمة الأعمال الفكرية والأدبية الغربية، لإشاعة المعرفة بالآخر على مستويات عديدة.

فعندما يتم ترسيخ قيمة الآخر في الذهنية العربية، وإعلاء دور العقل، والتأكيد على أهمية الحوار في الحياة اليومية للأفراد، سوف تتشكل بيئة صالحة لإقامة الحوار المبتغى مع الآخر، من موقع الندية أولا، وبهدف تحقيق الاتصال بين الأفكار والقيم بين الثقافتين المتحاورتين، وهو ما سينعكس بالضرورة على طبيعة الحوار ذاته، وما يمكن أن يتمخض عنه، كما أنه، والحال كذلك، سيكون معبرا عن مجتمع عربي إسلامي يؤكد اتساقه مع ما يدعو إليه في حواره، مما سيكسبه المصداقية ويجعل منه نموذجا إيجابيا لحوار حضاري بين شعوب تعرف معنى التسامح والتواصل مع الآخر، والبحث عن صيغ التعايش في عالم واحد تتصل مصائر أفراده بعضها بعضا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*