الكويت في معركة الفوز بالديمقراطية

  • الخلافات بين الفرقاء في الكويت هي في الرؤية والتوجه والوسيلة وليست على المصلحة العامة
  • الديمقراطية وُلدت مع ولادة الكويت وأصبحت جزءاً من طبيعتها
  • منذ أن أُقر الدستور في الكويت وهو الملاذ الذي يلجأ إليه الجميع
  • سوف ينجلي غبار الانتخابات ولا تبقى سوى مصلحة الوطن

          مرة أخرى يتحقق النصر للدستور في الكويت، بعد أن انقشع غبار المعارك الانتخابية، وخفتت الحناجر من حدة الصراخ، وانتهت فترة الدعاية الانتخابية والشعارات الرنانة، يشعر الكويتيون بأن تاريخاً طويلاً من الممارسة الديمقراطية قد انتصر، وأن اللحظة الراهنة بكل ما فيها من غضب واحتدام وعشوائية، لم تكن إلا لحظة عابرة، في هذا الشهر وقد فرغت الكويت من اختيار مجلسها النيابي الجديد، وتستعد لاستقبال حكومة جديدة، آن لصوت الحرية أن يعلو، وأن يحتكم الجميع إلى الحوار العقلاني في إطار الحرية وقوانين تنظيم ممارستها، والتفرغ لمرحلة من البناء والتجديد، ولمزيد من الديمقراطية وإشاعتها في مختلف مفاصل الحياة اليومية في المجتمع الكويتي.

في أثناء احتدام المعركة الانتخابية التي جرت أخيراً من أجل أختيار أعضاء مجلس الأمة، اتصل بي أكثر من صديق من خارج الكويت، كانوا جميعا يبدون دهشتهم من مدى احتدام الموقف الداخلي في الكويت، وعبر بعضهم عن خشيته على هذا البلد الصغير من كل هذه الأزمات المتلاحقة بين الحكومة وهي السلطة التنفيذية، ومجلس الأمة الذي يمثل السلطة التشريعية، وهي أزمات لم تكن تنتهي إلا بحل المجلس، او باستقالة الوزارة، ولا يكاد الجمعان أن يلتقيا حتى يتفرقا مرة أخرى ويثور بينهما الصراع من جديد، ولم ينحصر الأمر داخل جدران المجلس ولكنه امتد إلى شتى المراكز والديوانيات والمجالس الخاصة، وحتى إلى بعض الصحف الخليجية التي كتبت محذرة الآخرين: «انظروا.. هذه هي نتيجة الديمقراطية في الكويت».

كنت أدرك أن هذا القلق على استقرار الكويت هو أمر مشروع، خاصة بعد أن علت بعض الأصوات لدرجة لم يحتملها البعض، وتناثرت الكثير من الاتهامات من دون سند، وأطلق العنان لكثير من التخويف والترهيب، وبالرغم من كل هذا كنت أرد على من يحدثني، أن هذا هو أمر طبيعي، في إطار الدستور أيضا، ولم يخرج عن الحدود المتعارف عليها، فالخلافات بين الفرقاء هي في الرؤية والتوجه والوسيلة، وليست خلافا على المصلحة العامة، مصلحة الوطن والديمقراطية. ولم يحدث أن حاولت اي فئة ان تستخدم القوة لتقضي على الفئة المخالفة لها، أو تستأثر بالسلطة مهما بلغت سطوتها، ولم يحاول نظام الحكم أن يستخدم سلطاته لقمع أي رأي مهما بدا متشددا مادام لا يخالف القانون، ظل الخلاف الدائر بالرغم من احتدامه داخل الأطر التي لا تجرح ولا تهين، والذين شاهدوا غبار المعركة القادمة من الكويت اعتقدوا أنها قادمة من كوكب آخر، ففي وسط عالم عربي مازالت بعض من دوله تعاني التضييق على الرأي المخالف، ولا توجد فيها تفرقة بين جريمة الرأي والجرائم التي يعاقب عليها القانون، تبدو الكويت غريبة على من هم خارجها وإن لم تكن غريبة على أهلها، فهم يدركون أنه حتى في أوج خلافاتهم، هناك مرجعية واحدة يعولون عليها جميعا، حكاماً أو محكومين، وهي الدستور الكويتي الذي يبلغ من العمر الآن سبعة وأربعين عاما، ومازال سائدا ومحترما ومصونا، من دون أن يتبدل، أو يحاول أحد أن يعدل من بنوده أو يطوعها وفق مصالحه قهرا واغتصابا.

جذور المشاركة الشعبية

في عام 1962 ولد الدستور الكويتي بعد مسيرة من الحياة السياسية والمطالب الديمقراطية والحضارية شهد عليها الجميع، وتوج بولادته تاريخاً طويلاً من حياة الشورى والمشاركة بين الحكم والشعب، فقد ولدت هذه المشاركة مع نشأة الدولة وكجزء من طبيعة المجتمع الكويتي، فقد اختار نظامه السياسي بالتراضي، وحدد العلاقة بينه وبين هذا النظام بالتفاهم والحوار والاتفاق، وقد تبلور هذا الأمر في صيغة من «الحكم المشترك» توافق عليها أهل الكويت و«صباح الأول» مؤسس الأسرة الحاكمة، وكان هذا الاتفاق أشبه بالعقد بين الجميع، ولم يفعل الدستور بعد عدة عقود من الزمن إلا أن حول هذا العقد الشفهي، إلى عقد مكتوب، ينظم الحياة الجديدة وتطور المجتمع ونظامه السياسي، وافق عليه كل الأطراف.

فالمجتمع الكويتي كان دائماً منفتحاً على العالم، وكانت السفن التي يملكها لا تكف عن الرحيل، وعندما تعود لا تكون محملة بالبضائع فقط، ولكن بالأفكار أيضا، لذلك كان أهل الكويت الأسرع في اكتساب المهارات والمعارف من خلال احتكاكهم بالثقافات الأخرى، ومن تراكم هذه المعارف ولد المجتمع المدني في الكويت في مرحلة مبكرة، ظهرت المدارس الأهلية وجمعيات النفع العام والأندية الأدبية والرياضية، ولم يكن غريبا أن ترتبط مسيرة التعليم بمسيرة الشورى، فقد كانت التطور الطبيعي لحركة الاستنارة التي يعيشها المجتمع، ويلاحظ أنه في كل عقد من الزمن كان يحدث تطور مهم قبل ان تتلاحق وتيرة التطورات بعد ذلك، ففي عام 1911 تم إنشاء المدارس بمبادرة شعبية لقيت الدعم والتأييد من الحكم، وبعد ذلك في عام 1921 أنشئ أول مجلس حديث للشورى، ويبدو أن هذا المجلس كان النتاج الطبيعي لتطور حركة التعليم التي أعدت طبقة مستنيرة من المدرسين والدارسين كان لها رأي ودور في توجيه مسيرة الحكم الحديث، وقد تم افتتاح مجلس الشورى في فبراير من ذاك العام ليعين الحاكم على تصريف أمور الدولة، ومهما قيل في تقييم هذه التجربة التي لم تستمر طويلا، فقد كانت في زمنها خطوة رائدة وشجاعة في إرساء مبدأ الشورى في منطقة الخليج كلها، وقد تم تعيين المجلس من اثني عشر فرداً يمثلون كل المناطق الجغرافية في الكويت.

التجربة كانت قصيرة العمر، كما قلنا، وكانت قلة الخبرة بالممارسة السياسية على أرض الواقع هي سبب إخفاقها المبكر، ولكنها تبقى علامة فارقة في تاريخ التطور الديمقراطي في الكويت. فقد دلت على مدى الوعي الذي اكتسبه المجتمع، والتوق الذي يشعر به أبناؤه للمشاركة في صنع مصيرهم، وكان على الكويت أن تنتظر عقدا آخر من السنوات حتى يتم إنشاء المجلس البلدي في عام 1931، وقد تم اختيار أعضائه بواسطة انتخابات مصغرة، شارك فيها نخبة من الأهالي والعائلات التجارية السائدة، وكانت مهمته وضع الأسس والتوجهات التي تساعد على تنمية الكويت، ووضع النظم المختصة بالحكم والإدارة، وقبل أن ينتهي ذاك العقد الثالث حتى كانت الكويت قد شهدت انتخاب مجلسين للشورى في عامين متواليين، وقد وضع المجلس الأخير منهما في عام 1939 أول مسودة للدستور، ولكن الأمور تعثرت لعوامل كثيرة واصدمت بمستوى التطور وقدرة المجتمع على استيعابه.

نضج الحركة السياسية

كل هذه التجارب المتوالية كانت قد أنضجت الحركة السياسية، وجعلتها تتطلع لوضع نظام ثابت ودائم يحدد مستقبلها، وقد أصبحت قصة ولادة الدستور من القصص الكلاسيكية في أدبيات التاريخ السياسي للكويت، ولا يكاد يخلو مرجع من التعرض لهذا الحدث، وإعادة رواية ما فيه من تفاصيل، واعتقد أنها قصة يجب أن تروى حتى تدرك الأجيال الجديدة مدى الجهد الفكري والقانوني الذي بذله الآباء المؤسسون من أجل وضع هذا العقد المسمى بالدستور، ويمكن القول إنه كان هناك نوع من المصادفة أو التوافق التاريخي الذي ساعد على إنجاز هذا الدستور، فقد شهد عام 1958 سقوط الملكية الديمقراطية في العراق، واستعدادات بريطانيا لمغادرة منطقة الخليج نتيجة لانهيار وجودها الاستعماري في غرب آسيا وسواحل الجزيرة العربية على إثر انكسارها في مصر عام 1956، وكذلك خسارة حلفائها في العراق، وقد شكلت هذه الأحداث الكبرى في المنطقة وعيا وانفتاحاً متزايداً لدى الكويتيين شعباً ونظاماً على حد سواء، وولد رؤية مستقبلية لما هو قادم من زمن جديد مختلف، وتبلورت هذه الرؤية في الطموح إلى التجديد، بعد أن بدأ القديم في التساقط، ولاحت في الأفق بشائر عهد جديد، وكان المخاض السياسي الكويتي قد تلاقى مع طموح النظام الحاكم للانتقال إلى العهد الجديد وعدم التخلف عن ركب التطور وحركة التحرر العالمي التي شملت، إضافة إلى أغلب الدول العربية، العديد من دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

في خضم هذه التحولات أدرك الحكم في الكويت أهمية التحول إلى النظام البرلماني الدستوري وتوافق هذا مع نضج الحركة السياسية الكويتية، فكان الطريق مفتوحاً أمام الجميع لهذا التحول التاريخي الذي بدأ في الكويت عام 1961، ففي هذا العام تم انتخاب جمعية تأسيسية بشكل حر مباشر من الشعب الكويتي، وكان الهدف من تأسيسها هو إعلاء مبدأ سيادة الأمة، وترك لها الخيار في وضع دستور نابع من الشعب ومصالحه ورؤيته للمستقبل.

الدستور.. الملاذ

وتكشف طبيعة المناقشات التي دارت في جلسات المجلس التأسيسي إحساس الأعضاء بأهمية المهمة المنوطة بهم، فهم لا يضعون دستورا للكويت فقط، ولكن نموذجا تحتذي به بقية الدول العربية التي لم تضع دساتيرها بعد، ويجب أن يكون خالياً من الأخطاء والمثالب التي وقعت فيها الدساتير الأخرى، وقد تباينت الآراء حول العديد من القضايا، وحدثت اختلافات في وجهات النظر بين الأعضاء، ولم يعترض أمير الكويت الشيخ عبدالله السالم الصباح على ما أنجزته الجمعية التأسيسية، وأقره كما وضعه المنتخبون من الشعب، من دون أن يأبه بالكثير من الاعتراضات، لقد أراد أن يكون هذا الدستور حصيلة خالصة للجهد الشعبي، ولم يكن يرى فاصلاً بين الشعب والأسرة الحاكمة لأنهم في النهاية كانوا جزءاً أصيلاً من نسيج الكويت الاجتماعي.

ومنذ أن أقر الدستور في الحادي عشر من نوفمبر عام 1962 وقد مثل معلماً سياسياً وحضارياً لدولة الكويت، بل وأصبح حجر الزاوية الذي لا يستقيم البناء من دونه، يلجأ إليه الجميع حاكمين ومحكومين، موالين ومعارضة، كانت نصوصه هي الملاذ الذي يُلجأ إليه كلما عصفت بالبلاد أزمة من الأزمات، وقد أثبت الدستور نجاعته في الكثير منها.

الشرعية والاستقرار

ولعل أكثر هذه الأزمات وأشدها مرارة على الشعب الكويتي هي أزمة الغزو الذي قام به النظام العراقي السابق، فقد سقطت الكويت تحت أقدام الغزاة ولكن شرعيتها الدستورية لم تسقط، حاولوا طمس حدودها من على خريطة العالم، ولكنها ظلت موجودة بالرغم من كل المحاولات، كل هذا لأن الشرعية الكويتية التي كانت تستمد وجودها من الدستور كانت تقود معركة التحرير، شرعية اعترف بها العالم أجمع خاصة بعد أن انعقد المؤتمر الشعبي في جدة بالمملكة العربية السعودية، وقد شارك في هذا المؤتمر كل ممثلي أطياف الشعب الكويتي التي التفت حول حكومتها الشرعية، وأعلنت تصميمها على خوض معركة التحرير حتى النهاية، كأن الزمان كان يعيد نفسه عندما قام أهل الكويت بمبايعة صباح الأول، في هذه الظروف الصعبة، كان الدستور والديمقراطية هما اللحمة التي سدت كل الفجوات وجعلت الشعب الكويتي على نفس رجل واحد، في هذا الموقف كان الدستور هو ضمانة الشرعية، التي كتلت دول العالم الديمقراطي وراء الحق الكويتي لتقرير مصيره بكل حرية.

تجلت أهمية الدستور أيضاً عندما حان وقت انتقال السلطة بعد وفاة أمير الكويت السابق الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، وكما ينص الدستور فقد انتقلت السلطة إلى ولي عهده الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح، وأصبح بالفعل أميراً للكويت لولا أن حالته الصحية لم تسمح له بممارسة سلطاته، ووفق مواد الدستور التي تنظم انتقال السلطة، فقد انتقلت السلطة دستورياً لحضرة صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الأمير الحالي للكويت، وكانت مواد الدستور الصريحة والواضحة بشأن تولي الحكم هي التي سهلت انتقال السلطة من دون صراع أو شقاق، وقد تمت مبايعة الأمير كما ينص الدستور في جلسة خاصة لمجلس الأمة بموافقة كل الأعضاء. وفي هذا الموقف أيضا كان الدستور هو ضمانة الاستقرار والاستمرار.

واجبات ومهام

ويمكن القول إن الدستور هو الذي انتصر أيضاً في هذه المعركة الانتخابية الأخيرة، فهو الذي سيجمع كل الكتل والتيارات السياسية المتنافسة، في كتلة واحدة تحت قبة البرلمان، ويجعلها تقوم بدورها التشريعي والرقابي من دون أي نوازع شخصية، وهناك العديد من المهام على المجلس الجديد والحكومة الجدية أن يقوما بإنجازها، هناك العديد من المشاريع التي تأجلت أو تعطلت وتحتاج إلى دراستها وإقرارها، فنحن في أمس الحاجة إلى قوانين تكفل للكويت دفعة قوية لتتحول إلى مركز مالي وتجاري رائد في المنطقة، وإلى دعم العلاقات الخارجية السياسية والاقتصادية للكويت خاصة مع عالمها العربي، وكذلك دعم دور الكويت في مجلس التعاون الخليجي وإعادة الفاعلية لقراراته ومنجزاته حتى يساهم في تسريع بناء منظومة خليجية قوية ومتماسكة تضمن لشعوبها الأمن والاستقرار والتنمية. وعلى المستوى الإقليمي علينا أن ننتبه للمحيط المضطرب الذي يحيط بنا، فالعراق مازال يغلي بمشكلاته الداخلية التي قد تؤثر سلبا في الكويت، كما أن الملف الإيراني والضغوط الدولية من أجل نزع سلاحها النووي لابد أن يلقي علينا بظلاله.

إن الديمقراطية الكويتية هي مرفأ الأمان لنا جميعا، وسوف تنجلى إرهصات المعركة الانتخابية، كغبار عابر لتبقى مصلحة الوطن، وستصبح كل معركة نخوضها هي تأكيداً على رسوخ التجربة الديمقراطية واستمرارها. فبها نفتح أبواب الحرية للتحاور والتفاهم والمشاركة في اتخاذ القرار الأصوب، وبها نستطيع أيضا تعديل المسار لمزيد من استقرار الحكم والتخلص من الشوائب التي تنمو في الطريق بين فترة وأخرى.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*