ثقافة الهزيمة

  • لم نشهد أي تعاطف عربي جماهيري أو إعلامي مع أرواح الأبرياء من الغربيين الذين تستهدفهم قوى الإرهاب والتطرف.
  • إن الثقافة العربية المعاصرة في استعادتها لاستقلالها اتخذت موقفاً عدائياً مطلقاً من الغرب باعتباره العدو المستعمر دون أن تفرق بين مفهوم العصرنة كرافد غربي وبينه كتطور طبيعي لأي مجتمع يبتغي النهوض.
  • إن الجماهير الغفيرة التي خرجت للشوارع دفاعاً عن الإسلام لم يسمع عنها أنها وقفت للدفاع عن حقوقها الأساسية وكرامتها المهدورة من القوى والسلطات الحكومية وغير الحكومية.

          على مدى الشهور الثلاثة الماضية، شهد المجتمع العالمي عددا من الأحداث التي اتسمت بالعنف بين المسلمين، أنفسهم، أو بينهم وبين مواطنين من ثقافات أخرى، وبينها حادثة مقتل مواطنة مصرية في قاعة إحدى المحاكم الألمانية على يد أحد المتطرفين الألمان، إلا أنها جميعا تقريبا شهدت ردود الفعل نفسها من قبل المسلمين من العرب وغير العرب، التي اتسمت بالحماس وردود الفعل الغاضبة، دون أن تحقق في النهاية أيا مما كانت تطمح إليه, على أي مستوى من المستويات.

بعد أن انقشع غبار الزوبعة التي ثارت، وخمدت كالعادة، إثر مقتل المصرية مروة الشربيني، على يد أحد المتعصبين الألمان، ترى ما هي الدروس المستفادة من تلك الواقعة الدرامية؟ وهل تعبر بالفعل عن شروخ عميقة في جدار حوار الثقافات بين الأمم، الذي نسعى جميعا لمد جسوره بين الغرب والإسلام على مدى عقود؟ أم أنها مجرد زوبعة أثارتها العصبية، ونفخ في لهيبها الحماس العرقي والديني، وانتهت إلى ظلام النسيان شأن كل ما نتعرض له كعرب ومسلمين يوما بعد آخر، دون أن نستلهم الدروس المستفادة ونراجع سلوكياتنا وأفكارنا، خاصة أننا نعيش اليوم في زمن عصيب يحتاج منا جميعا إلى التفكر والتدبر أكثر من أي وقت مضى؟!

عندما وقعت الجريمة البشعة التي راحت ضحيتها تلك السيدة المصرية، ثارت على الفور نيران الغضب العربي في كل مكان، وهذا من حقنا جميعا، أن نغضب لإساءات المسيئين إلينا، كما ينبغي أيضا أن نغضب لكل مهانة يتعرض لها أي إنسان آخر في العالم، مادمنا شركاء وأخوة في الإنسانية. لكن المؤسف أن ذلك الغضب اتسم بنوع من الانفعال واكتفى بالصراخ، وبمطالبة السفارة الألمانية بالاعتذار، دون محاولة لتأمل القضية من جميع وجوهها، ووضع الحدث في نصابه الحقيقي.

إن هذه القضية هي في الحقيقة فصل آخر في مسلسل تناقضات حوار الثقافات، الذي لا يفضي دائما إلا إلى نقيضه، وكلما حدثَ حدثٌ راح ضحيته مسلم أو عربي راح الجميع ينوح على الحقوق العربية المهدرة، وعلى سوء نوايا الغرب تجاه العرب والمسلمين، وتتبارى الأجهزة الإعلامية في استثمار الحدث لإثارة الجدل دون أن تقوم بدورها العقلاني المفترض كجهة تتولى مسئولية حساسة, وهي تكوين رأي عام، وتوعية الجماهير بالحقائق بعيدا عن المزايدة على مشاعرهم.

إن مثل هذه القضايا ينبغي في الواقع أن تكون بمنزلة الدافع القوي لكي نفكر مليا في أحوالنا الثقافية، وأوضاعنا الاجتماعية، وممارساتنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخر، فنحن نتجاهل ما يجري من انتهاكات للإنسان المسلم والعربي إذا ما تمت داخل أوطاننا وبأيدينا نحن، أما إذا تمت بيد عمرو فهذا هو المستنكر!

تعاطف منقوص

فالحقيقة أننا نتناسى في مثل هذه الظروف أن الأعمال الإرهابية التي قام بها بعض دعاة التطرف في بعض الدول العربية – منذ الثمانينيات إلى يومنا هذا – قد راح ضحيتها مئات الضحايا من السياح الأجانب الذين استهدفتهم هجمات المتطرفين المسلمين الكارهين لكل ما هو غربي، ولم نشهد أي تعاطف عربي جماهيري أو إعلامي مع أرواح أولئك الأبرياء من الغربيين، الذين لم يفعلوا شيئا إلا أن جاءوا لزيارة بعض مدننا العربية والتعرف على ثقافتنا ومجتمعاتنا. كما أن أهالي أولئك الضحايا على كثرة أعدادهم لم يطالبوا الحكومات العربية بالاعتذار لأنهم يدركون حقيقة الظاهرة، وكون هذا التطرف والغلو لا يعبران عن موقف حكومي تجاه رعايا الدول الأجنبية، بل ولا تمثل موقفا شعبيا من قبل الأفراد، من جمهور الدول العربية التي وقعت بها تلك الأعمال.

والحقيقة أن الفارق الكبير في ردود الفعل من قبل الضحايا في الجانبين يعبر عن أزمة عميقة تمر بها ثقافتنا العربية, التي أصبحت ثقافة هزيمة وثقافة انكسار، وليست ثقافة قوة. وفي مثل هذا الوضع يحدث نوع من السلبية تجاه التفكير في الأمور، ولا يتم التفكير فيها بشكل إيجابي أو عقلاني، إنما ينقاد المجتمع خلف الحماسة ورد الفعل العدائي النابع من فقدان الثقة بالنفس.

ولو تابعنا ردود الفعل العربية الجماهيرية على الوقائع الشبيهة، مما تضمن إساءة لنا على مدى السنوات الأخيرة لوجدناها، كلها، لا تتجاوز كونها مواقف عدائية وعدائية عنيفة، دون تفكير وإدراك حقيقي بأبعاد المشكلة، وبالتفكير الموضوعي في الوسائل العملية المؤثرة التي يمكن بها أن نحقق ما نريد.

هواجس ثقافة الهزيمة

بل إن الأمر بلغ حدا خطيرا عندما انتفض المسلمون الإيجور في إقليم شينج يانج الصيني، وتعالت بعض الأصوات مطالبة بالانفصال عن الصين، وانبرت أصوات من المسلمين والعرب تنادي بالتدخل وإنقاذ المسلمين في الصين دون وعي بأن ما يحدث في الصين هو شأن داخلي يطالب فيه كيان صيني بالانشقاق والانفصال عن الدولة، ولم تراع الأصوات المتضامنة المواثيق والمعاهدات الدولية، والبروتوكولات التي تنظم علاقات الصين بدول العالم والتي تمنع تلك الدول من التدخل في شئونها الداخلية، وهو ما ينطبق نفسه على أي دولة عربية لو ظهرت بها طائفة تطالب بالانفصال وإقامة دولة مستقلة داخل حدود الدولة الأم.

إن ثقافة الهزيمة قد صورت لنا – كعرب – أن كل ما يحدث هناك موجه ضدنا نحن كمسلمين، بينما الأمر في أغلبه، شأن محلي داخلي في دولة تربطنا بها مواثيق وبروتوكولات والتزامات واتفاقات تجارية واقتصادية وغيرها.

واليوم تحدث كوارث مروعة بشكل يومي بين العراقيين أنفسهم، خاصة تلك الدينية والطائفية والمذهبية, وأبرزها ضد مسيحيي العراق، وتمارس ضدهم كل ألوان التقييد، والتمييز، والقتل، لدرجة مطالبة البعض بخروجهم من العراق، على الرغم من أن مسيحيي العراق هم أقدم الطوائف التي عاشت في العراق، منذ أقدم العصور، وقبل دخول الإسلام إلى المنطقة بعهود.

كذلك تم التعاطي مع إطلاق سراح المتهم في قضية لوكربي , لدى كثير من مؤسسات الاعلام العربي بأنه انتصار للإسلام، بينما المسألة كلها متعلقة بحادث تفجير طائرة ركاب مدنية تابعة لخطوط طيران عالمية، وهو حادث لا علاقة له بالدين ولا بالاعراق ولا بالمسلمين. ومن المدهش حقا أن بعض المثقفين العرب في تعاطيهم مع القضايا الثلاث، التزموا طريقة التفكير اللا عقلانية المنبثقة من عقلية الهزيمة الثقافية، شأنهم في ذلك شأن الجمهور العريض ممن لا يعرفون الحقائق وواقع الأمور.

إن هذه الطريقة اللاعقلانية في رؤية الأمور، وردود الفعل الانفعالية، والعدائية، لا تؤدي إلا إلى المزيد من سوء الفهم من قبل الأطراف الأخرى غير العربية للإسلام وللمجتمعات العربية، ونحن بهذا نعمق العداء ضد مجتمعاتنا في وقت نحن في أشد احتياجنا إلى تفهم العالم لنا، لكي نستطيع حل المشكلات الكبرى المتعلقة بأزمات العراق وفلسطين على نحو خاص، وغيرها من القضايا العالقة وتحتاج إلى التفهم الكامل بيننا كعرب وبين الدول الغربية من دول العالم.

في الوقت نفسه فإن دولة عنصرية بامتياز مثل إسرائيل التي تعادينا جميعا تقدم نفسها للعالم كدولة ديمقراطية متقدمة ومتطورة، لكي تؤكد الصورة المطلوب ترويجها عن العرب المسلمين ككارهين للعالم، ومقاتلين باسم تكفير الآخرين، ورفع شعار محاربتهم باسم الإسلام.

وهذا هو أحد أهم وجوه الاختلاف بين العرب وإسرائيل. العرب يتعاملون، عن غير وعي ودراسة، انطلاقا من ثقافة هزيمة، بينما الأطراف الأخرى، لا تتحرك من المنطق ذاته، لذلك تختلف طبيعة المواقف وردود الفعل إزاء كل موقف أو حدث.

مفاهيم خاطئة

وربما تكون لثقافة الشعور بالهزيمة أسباب عدة، بينها أن الثقافة العربية المعاصرة في استعادتها لاستقلالها، عبر القرن الماضي، اتخذت موقفا عدائيا مطلقا من الغرب باعتباره العدو المستعمر، دون أن تفرق بين مفهوم العصرنة كمفهوم لا علاقة له بالغرب، بقدر ما هو تطور طبيعي لكل مجتمع يبتغي أن يحقق نهضته في فضاء حر. ومن جانب آخر انعكست أزمة هوية المواطن العربي في استعادته للاستقلال، محاولة ربط الهوية بالتراث، لكنه بدلا من أن يخلص التراث من طقوسه الشكلية المرتبطة بظروف تاريخية واكبت نشأة ذلك التراث، فإنه (الفرد العربي) تمسك بالشكل على حساب المضمون. وفي هذا السياق وسوء الفهم يمكننا أن نفهم هذه الانكفاءة المتمثلة في العديد من المظاهر التي تشهدها مجتمعاتنا الآن، ممثلة في جدليات صاخبة حول النقاب أوالحجاب، أو حول تفاصيل طقسية متعلقة بالشعائر والزي والشكليات، بينما جوهر الموضوع غائب ومسكوت عنه تماما، وهو ما أدى، بين أسباب أخرى، إلى ألوان من الصراعات الطائفية يتربص فيها كل طرف بالآخر، على يقين كامل تقريبا بأنه الوحيد صاحب الحقيقة المطلقة، وهذا طبيعي في أجواء التعصب التي يفرزها التمسك بالقشور والشكليات البعيدة عن أصول الدين وقيمه الأساسية، بدلا من إفراز أسئلة حقيقية تواجه قضايا الواقع والمجتمع والمستقبل.

والدليل على ذلك أن الجماهير الغفيرة التي خرجت إلى الشوارع دفاعا عن الإساءة للإسلام، لم يُسمع عنها أنها وقفت وقفات مماثلة دفاعا عن حقوقها الأساسية في المجتمعات التي تنتمي إليها، أو أنها انتفضت لأجل كرامتها المهدرة من سلب حقوقها السياسية والاقتصادية أو غيرها من القوى والسلطات الحكومية وغير الحكومية. فهي تستبدل ذلك بالالتفاف حول قضايا تبدو بالنسبة إليها متفقا عليها ومضمونة، ومأمونة أيضا، لا تعرض أيا منهم لخطر الملاحقة أو الاعتقال، وهذا هو شأن القوى المحافظة على طول الخط. وهو أمر بديهي لأفراد يعبرون عن ثقافة مهزومة كما أسلفنا.

ولذلك سنرى أن جميع القوى المحسوبة على تيار سياسي ديني في أي بقعة عربية لا تقدم للناس برامج اقتصادية واجتماعية وسياسية ذات قيمة إصلاحية، بل تكتفي بطرح مسائل جدلية، وتبدي تشددا على بعض المظاهر الشكلية دون أي أفكار سياسية حقيقية تبتغي الإصلاح السياسي، وهي تراهن على شعبية جمهور مهزوم يرى في مظاهر التدين الشكلي حلا مخدرا لأزماته، بديلا للتدين الحقيقي الذي يبتغي التقدم والرفاهية والعقلانية, التي هي في جوهرها من أهم القيم التي تضمنها الدين الإسلامي، والرسالات السماوية جميعها.

أساطير عصور التخلف

إن ثقافة الهزيمة التي توجه الانفعالات العربية تعكس تراجعا زمنيا في مسيرتنا البشرية المعاصرة، في واقع تتقدم فيه أمم العالم من حولنا قرونا في اليوم الواحد، وهي أيضا تعكس تراجعا عن النهضة التي حققتها الحضارة الإسلامية كقوة خلاقة فكرا وإنتاجا علميا وفنيا وفلسفيا على مدى عصور ازدهارها، حين تضافرت العقول التي كانت تدرك مكمن قوة الدين الإسلامي كدين منتج للتسامح والتآخي والتقوى بمعناها الحقيقي، لا مجرد التمسح بمظاهر دينية لأسباب أخرى.

والنتيجة هي دوائر من الإخفاقات والتراجع في مجالات الإنتاج الفكري والفلسفي وحركة الترجمة، بل وحتى في الفقه الإسلامي نفسه، الذي كان أداة لمواكبة معالجة المستجدات اليومية للتطور الذي يشهده المجتمع الإسلامي في عصور ازدهاره، وصولا للإنتاج الصناعي والتقني، بالشكل الذي يهدد وجودنا بالفعل، إذ إننا في غياب العقل، ومع تكرار الإخفاقات وتزايد إحباطاتنا لن يكون لدينا سوى الضغائن والعداءات التي نوجهها إلى الغرب بوصفه المعتدي على ديننا كما تصور لنا نفوسنا في حال ضعفها، ثم لاحقا نسدد سهام العداء والكراهية إلى الطوائف الأخرى العربية التي تختلف في رؤيتها الفقهية للتدين.

إن ثقافة الهزيمة هذه مع الأسف لا توفر إلا محاولة اتباع أساطير عصور التخلف، بدلا من اتباع تراث الحداثة الإسلامي الذي أسسه رواد الفكر الإسلامي العربي، الذين أرسوا مبادئ التسامح والحوار العقلاني، عملا بما جاء في القرآن الكريم، وتأسياً بسيرة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).

ولعل أحد أسباب استمرار أزمة الفرد العربي في ظل ثقافة الهزيمة ما يعبر عنه الكاتب هاشم صالح بقوله: «إن الأصولية أصبحت معضلة محيرة ومعرقلة لتقدم الشعوب العربية والإسلامية, لأن أفكارها مناقضة للعلم الحديث، ولكنها مع ذلك تفرض نفسها كأفكار مقدسة ومعصومة لا تناقش. وبالتالي، فالإنسان المسلم يجد نفسه في حالة تمزق صعبة جدا. فهو إذا ما أخذ بنظريات الحداثة وضرب عرض الحائط بالأفكار الأصولية شعر بعقدة الذنب، لأن هذه الأفكار تفرض نفسها على المجتمع وكأنها مقدسة. وإذا ما تخلى عن أفكار الحداثة وخضع للأصولية فإنه يشعر بالانسلاخ عن العصر والتقدم العلمي والفلسفي والعقلاني. وبالتالي فهو في حيرة من أمره وواقع في معضلة حقيقية لا يعرف كيف يخرج منها أو يحلها. ولن تحل هذه المعضلة إلا بعد أن يقدم المفكرون العرب فهما عقلانيا للإسلام لكي يقف في مواجهة هذا التأويل الظلامي المتزمت، الذي يسيطر علينا اليوم».

وقبل هؤلاء الجماهير لا بد أن ينتبه بعض المثقفين – ممن وقعوا في تناقضات بسبب الاستسلام لثقافة الهزيمة – إلى أن الرهان الحقيقي على استعادة الحضارة العربية زهوتها لن يكون إلا باستمساك المثقفين بمواقفهم، وبالإصرار على إنتاج ثقافي جديد ومختلف، يحاول أن يحلل ويرصد الظواهر بعيدا عن الشعارات والإغراق في تقدير النفس، كرد فعل على الإحساس بالهزيمة، أو الدونية، وإنما بالعقلانية واليقين بأن كل حضارة تجتهد في إنتاجها سوف تتمكن من نشر الوعي الذي يحرك الطاقات الإيجابية في المجتمع ويعلي من قيم العقلانية، وتصحيح المسارات الفكرية والاجتماعية, وما ينعكس عليه من تخليق قدرات عقلية نقدية يمكنها مواجهة كل أوجه الفساد والتسلط والمظاهر الشكلية السطحية الهشة، وهي العقلية التي نريد أن تمثل الأغلبية لدى الجمهور العربي، لأنها ستكون بمنزلة الإشارة على تحقق الوعي، بدلا من محاولات تغييبه المستمرة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*