الهوية العربية بين سندان التغريب ومطرقة التطرف

  • عندما تتلاشى هوية شعب فإنه يفقد مكوناً رئيسياً من مكونات قوته كما أنه يفقد أيضاً قيمه الأساسية
  • فقدان العرب هويتهم أفقد مؤسسات العمل العربي المشترك مصداقياتها وعلى رأسها جامعة الدول العربية
  • لسنا ضد تعلم اللغات الأجنبية لكننا ضد انتشارها على حساب لغتنا الأم أو لحساب طمس هويتنا الثقافية

          تطوّر جديد ومحزن تشهده منطقتنا العربية، ربما للمرة الأولى في تاريخها المعاصر بعد الاستقلال، تمثل في لجوء دول عربية إلى قوى إقليمية غير عربية للوساطة بينها في منازعاتها بدلاً من اللجوء لأي مؤسسة أو دولة عربية كما هو متوقع، بدأت أولاً بوساطة تركية في المفاوضات بين إسرائيل وسورية، وامتدت للوساطة التركية بين كل من سورية والعراق، والتحقت بالمفاوضات بين الطرفين العربيين في فترة تالية دولة إيران.

 

كان لافتاً أن القضية التي شهدت تصعيداً مستمراً من الحكومة العراقية التي تتهم سورية بتسهيل تمرير المتطرفين عبر المناطق الحدودية بين البلدين، وعلى الرغم من تصاعدها لم تلق أي اهتمام أو محاولة للتدخل من الدول العربية كافة، ومع الأسف، كانت الأصوات التي دعت إلى استكمال المفاوضات بين الطرفين هي أصوات فرنسية وأمريكية. فما هي دلالات هذا التطور الدولي والإقليمي في منطقتنا العربية؟

لاشك أن الدلالة الأهم في هذا الصدد هي غياب القوى العربية المؤثرة عن الساحة العربية لمصلحة القوى الأجنبية، من جهة، كما أنه يؤكد، من جهة أخرى، على اعتراف عربي بغياب قدرة الأطراف العربية على حل المشكلات الإقليمية بين الدول العربية منذ احتلال صدام حسين للكويت في أغسطس عام 1990 وحتى الآن.

لكن ما يمكن أن يستوقفنا، في دلالته الأكثر وضوحاً، هو المعنى الضمني لهذه الظاهرة اللافتة التي يمكن تأملها من منطلق كونها دليلاً على تلاشي الهوية العربية بحيث إنها فقدت عناصر وأسباب وجودها، وعندما تتلاشى هوية شعب، فإنه يفقد مكوناً رئيسياً من مكونات قوته، كما أنه يفقد أيضاً قيمه الأساسية.

الدلالة الأخرى التي يمكن استخلاصها هنا أن فقدان العرب هويتهم قد أفقد مؤسسات العمل العربي المشترك مصداقياتها، وعلى رأسها جامعة الدول العربية، التي كان من المفترض أن تكون الطرف الرئيس لحل المشكلات المعلقة بين الطرفين العراقي والسوري في الوقت الراهن، بل وأي قضية خلافية أخرى بين أي طرفين عربيين من أعضاء جامعة الدول العربية.

إن القضية قد تبدو في مظهرها قضية سياسية طارئة، لكنها، في حقيقة الأمر، نتاج تغيرات ثقافية طويلة مرت بها المنطقة على مدى العقود الأخيرة، ولا يمكن استبعاد القصدية في نوايا أطراف غربية ترى أهمية كبيرة في ضعف الهوية العربية لفتح الباب للثقافة الغربية لتحل كهوية بديلة لشعوب المنطقة على الأمد البعيد.

هذه الفكرة في الواقع إحدى الأفكار الجوهرية التي اعتمدتها كل القوى الاستعمارية في محاولتها لتذويب هوية السكان الأصليين في أي مستعمرة، ونموذجها الأبرز هو نموذج الولايات المتحدة في خلال محاولتها الأولى لتأسيس دولتها على أنقاض السكان الأصليين لأمريكا، حيث كانت الخطة الأولى هي محو ثقافة السكان الأصليين واجتثاث وإبادة كل مظهر خاص بتراثهم الثقافي التقليدي، بحيث يتم إضعاف قوة تشبثهم بهويتهم، وبالتالي لا يعود بإمكان مَن يريد البقاء إلا الذوبان في قيم المجتمع الجديد.

ولنتأمل مظاهر تلاشي الهوية العربية خلال السنوات الأخيرة، وبينها ظاهرة إهمال الاهتمام باللغة العربية على مستويات عدة، تبدأ في الدراسة التي أصبحت الآن تشهد لوناً من فرض اللغات الأجنبية بوصفها لغة المستقبل ولغة التعليم والثقافة الرفيعة، بل ولغة الحصول على فرص جيدة للعمل لمن يرغب في تأمين مستقبل أبنائه، ولم يعد ذلك مقتصراً على المدارس الخاصة التي تهتم بتعليم اللغات، بل امتد إلى ظاهرة استيراد المدارس ذات الطابع الدولي، والجامعات الأجنبية لكي تصبح مراكز تعليمية أساسية في كل أرجاء المنطقة العربية، وأغلبها إن لم تكن كلها، جامعات تسعى إلى ترويج الثقافة الغربية بكل أبعادها، في المجتمعات العربية التي تعمل بها.

اللغات الأجنبية وقيمنا الحضارية

ومن البديهي أننا لسنا ضد تعلم اللغات الأجنبية، لكننا ضد انتشارها على حساب لغتنا الأم، أو لحساب طمس هويتنا الثقافية، وفقدان لغتنا العربية التي تعد مستودعاً لذاكرتنا وثقافتنا وهويتنا بكل ما تتضمنه من قيم وتراث حضاري، لكن العمل على إفقاد اللغة العربية أهميتها لم يقتصر على فكرة التعليم الأجنبي، إنما أصبح غاية إعلامية تمارسها وسائل الإعلام العربية كافة، من خلال بث المواد الإعلانية، التي تستخدم خطاباً عامياً يفتقر إلى علاقة صحيحة مع اللغة العربية الأم، بل إننا نلاحظ الآن مع الزيادة المطردة لعدد القنوات الفضائية العربية أن هناك ما يشبه المنافسة في فرض اللهجات المحلية لقنوات كل بلد عربي بحيث يتسيّد خطاب القناة على حساب اللغة العربية الفصحى، لدرجة أن بعض القنوات العربية الخاصة الآن تبث الفقرة الإخبارية باللهجة العامية لبلدها. كما سنجد أن بعض المسلسلات الدرامية الأجنبية والتركية، التي يتم تعريبها تستخدم فيها لهجة محلية للجهة التي تقوم بالترجمة.

بل إن الصحافة المحلية في العديد من الدول العربية الآن تستخدم العامية الدارجة في الكتابة مطعمة بها اللغة الفصحى، وهو ما يبدو كأنه محاولة لخلق لغة بديلة في كل قطر من الأقطار العربية، وبالتالي أصبح الآن هناك حوار عن ضرورة استعادة القرّاء باستخدام اللهجات المحلية بديلاً للفصحى، اللغة الأم لكل الثقافة العربية الإسلامية، على الرغم من أن التجربة كانت أثبتت أن الفصحى يفهمها الأفراد جميعاً لكونها اللغة التي يتعلمها الجميع في المدارس، ولأنها أيضاً لغة القرآن الكريم، ولأنها لغة ثرية بجمالياتها وبلاغتها، استطاع كبار الفنانين العرب أن ينقلوها لوجدان الناس عبر القصائد المغناة كما فعل كبار الفنانين العرب، مثل عبدالوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وأم كلثوم وفيروز وسواهم في العديد من أغنياتهم الشهيرة. بل واستطاعت هذه القصائد المغناة أن تصل إلى رجل الشارع الأمي، يحفظها ويرددها ويستمع ويطرب لكلماتها ومعانيها.

إن العرب لن يمكنهم أن يحققوا أي تقدم في مجال التنمية والنهوض إلا إذا انتبهت الدول العربية جميعاً إلى أهمية وضرورة بذل الجهد في سبيل استعادة الهوية العربية المستباحة، وتأصيل الإحساس بهذه الهوية عبر مخططات ثقافية موجهة واستراتيجيات بين الجهات الإعلامية العربية. كما ينبغي انتباه المسئولين عن إدارة القنوات الفضائية العربية إلى أهمية اللغة العربية كعامل أساسي من عوامل تقوية إحساس الجماهير بهويتهم.

في المقابل هناك دور مهم تلعبه مثلاً القنوات الموجهة للأطفال العرب، التي تقوم بتعريب أفلام الأطفال وأفلام الكارتون الغربية للغة العربية باستخدام لغة فصيحة تثري لغة الطفل العربي وتوثق علاقته باللغة الأم، لكن هذا الدور سيظل جهداً فردياً إذا لم تتكامل معه مجموعة العناصر التي تنمّي الإحساس بالهوية العربية لدى جماهير الشباب في المنطقة العربية، وبينها برامج توثيقية مصنوعة جيداً، وشائقة، عن أهم رموز الثقافة والأدب والعلوم والموسيقى العرب، وعن التاريخ العربي القديم والمعاصر، وهذا دور تقوم به الدولة لما يتطلبه من إمكانات مالية ومادية متنوعة.

إن مثل هذه البرامج لم تعد ترفاً أو مجرد برامج للتسلية، بل هي ضرورة في هذه المرحلة كواحد من عوامل كثيرة أخرى، ينبغي العمل عليها للتأكيد على الهوية العربية، وبحيث يتأكد لدى الشباب أن بإمكانهم أن يستعيدوا القوة لبلادهم عبر جهدهم وعبر أنشطة وثقافة تعبّر عن خصوصيتهم وتراثهم العربي الخصب الذي تمتلئ صفحاته بجهد مشرف في المجالات كافة.

وضمن هذا الضياع للهوية العربية، نجد أن المخاطبات الرسمية في العديد من المؤسسات التجارية والبنوك وحتى مؤسسات حكومية قد استبدلت باللغة العربية الرسمية اللغات الأجنبية، وخاصة الإنجليزية، على الرغم من أن الدول في العالم اليوم تعمل للمحافظة على لغتها الأصلية، وتقاوم أي محاولة لاستبدالها في المخاطبات الرسمية، وتضع المخططات والميزانية الضخمة لنشر لغاتها في العالم، وخير مثال أمامنا اليوم هو الفرنكفونية ودور فرنسا فيها.

تشوهات ثقافية

كما نلاحظ اليوم ظاهرة جديدة تتمثل في استخدام الشباب للغة خاصة تجمع بين اللاتينية والعربية في استخدامهم للخطاب المتبادل على أجهزة الهواتف المحمولة والحواسب، وكذلك في المدونات الإلكترونية الشخصية، التي تنحاز، في أغلبيتها العظمى للتدوين باستخدام اللهجة المحلية العامية، أو حتى بلغة «مخترعة» تماماً يتحدث بها بعض أفراد الجيل الجديد، ويستخدمونها وسيلة للاتصال، يعبّرون بها عن خصوصية انتمائهم لمرحلة عمرية، وأسلوب حياة محددين في غياب البرامج الحكومية التي تحمي الهوية الوطنية، وترسّخ لغتها وقيمها الحضارية يومياً في الأجيال الجديدة.

على مستوى آخر، سنجد أنه في بعض الدول العربية مثل لبنان ومصر تأخذ العملات الأجنبية مثل اليورو والدولار ثقلاً مركزياً في التعاملات على حساب العملة المحلية الوطنية، وهو في باطنه اعتراف بقوة تلك الدول أصحاب العملات الأجنبية، وامتثال لذلك الواقع. وهو – بلاشك – علامة على غياب الدولة وهويتها.

وحتى في العمارة أيضاً، سنجد أن الأغلبية العظمى من الدول العربية قد طمست، بإرادتها، تراثها المعماري العربي، واستبدلت به بناء عصرياً، من أبراج شاهقة، أمريكية الطابع،

لا تعبّر عن التراث الثقافي والمعماري العربي على أي نحو، ولا تتناسب مع البيئات العربية ومناخها واحتياجات سكانها, من حيث عاداتهم وتقاليدهم الحياتية في السكن والعمل.

إن هذه الظواهر قد قُتلت بحثاً على مدى العقود الماضية، لكن كل صرخات التحذير ذهبت هباء، وأصبح الواقع، الذي حذّر من تبعاته أصحاب البصيرة والفكر، حقيقة نعايشها ونعاني منها في الوقت الراهن.

الاستعمار والهوية العربية

ومن الطبيعي، والحال هو ما آل إليه الواقع، أن تتأثر بتلك السلبيات المفاهيم والقيم الأساسية التي أقيمت بناء عليها مؤسسات العمل العربي المشترك، التي كانت قد تأسست بوصفها كيانات حاضنة للدول العربية، التي توحّدها الهوية العربية الإسلامية بكل إرثها الحضاري والثقافي. بالتالي أُهمِلت إدارة تلك الشئون على المستويات الثنائية والإقليمية بين الدول العربية وبعضها البعض، بالإضافة إلى التراجع الملحوظ في دور جامعة الدول العربية التي تكاد أن تكون توقفت عن إدارة أي شأن أو نزاع أو قضية محورية علىالمستوى العربي، وهو ما ينعكس على كل المؤسسات السياسية العربية الأخرى المهتمة بالعمل العربي المشترك أو بعمليات التنمية في العالم العربي في إطار قومي عربي.

لقد حاول الاستعمار، في شكله البدائي القديم، السيطرة على المنطقة، ومقدراتها وثرواتها والمواد الخام فيها، وحين نهضت شعوب المنطقة في مواجهة ذلك الاستعمار، سرعان ما شرعت الدول العربية والنامية في بذل الجهود النهضوية لاستعادة ما فقدته من إصلاحات تعليمية وتنموية وبنى أساسية، كما حاولت إنشاء صناعات وليدة وحاولت إدارة ثرواتها واستثمارها بشكل كفء، لكن الدول الاستعمارية القديمة لم تقف مكتوفة الأيدي حيال محاولات النهضة العربية وحاولت القضاء عليها في المهد عن طريق إعادة الهيمنة بأشكال غير مباشرة أهمها العامل الاقتصادي، وتشجيع ومساندة حركات إثنية وطائفية للمطالبة بالانفصال عن الكيانات الأم في المنطقة (العراق، لبنان، السودان، اليمن، المغرب والجزائر) وتشجيعها وتسليحها للدخول في صراعات مسلحة فيما بينها لتعطيل وإفشال العمل التنموي بالتالي.

والحقيقة أننا يمكن أن نرى بوضوح محاولات غربية لتغيير هوية المنطقة منذ أن شنّت الحروب ضد البلاد العربية، ابتداء من حرب وهزيمة 1967 وصولاً لاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة، وسرعان ما ظهرت بشائر المخطط الغربي في تقسيم العراق وإشعال فتيل الفتن الطائفية بين السنة والشيعة، وتعميق ثقافة الكراهية بين العرب والأكراد بالشكل الذي نتج عنه إصرار الأكراد على الانفصال عن العراق.

كما أنه ليس خافياً أن الأطراف الإقليمية التي تتدخل اليوم،بكل ثقة، للوساطة بين الأطراف العربية كتركيا وإيران هي في النهاية تلعب مثل هذا الدور لمصلحة أجندة خاصة بكل منها في المنطقة، ولا يبقى سوى العرب الذين يقدمون أنفسهم كبش فداء لكل صاحب مصلحة، والذين يرفضون وضع أي خطط مستقبلية استراتيجية لاستعادة هيبتهم وقوتهم ووحدتهم لكي يصبحوا قوة إقليمية معتداً بها ولتتمكن من المحافظة على وجودها وحماية مستقبلها، وقطع المياه أو تقليصها للأنهر التي تنبع فيها وتصب في بلادنا العربية إلا مثل صارخ على هذا التدخل، مع أنه ضد القوانين المعمول بها في العالم.

والدلائل تقول إنه من المستبعد أن ينتبه العرب لمثل هذه الأفكار الاستراتيجية في المستقبل القريب إذا استمرت مظاهر فقدان الهوية العربية، إعلامياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً، على ما هي عليه الآن.

إن العرب لن يتمكنوا من تحقيق أي تقدم في مجال مواجهة المخططات الأجنبية للهيمنة على المنطقة وشعوبها إلا إذا انتبهوا إلى ضرورة بذل كل الجهود في سبيل استعادة الهوية العربية المفقودة, وتأصيل الإحساس بهذه الهوية عبر مشروعات ومخططات ثقافية موجهة واستراتيجيات بين الجهات العربية، وبالتأكيد تقع على وزارات التربية والتعليم العربية مسئولية كبيرة في تطوير تعليم اللغة العربية والاهتمام بها وتوفير معلمين على أعلى مستوى لتبسيط القواعد النحوية, وكذلك تزويد الدارسين من الشباب العربي بأمهات الكتب العربية في الآداب والعلوم للتعرف على التراث العربي العلمي والأدبي وعلوم البلاغة، واستعادة الثقة لدى الجماهير بثقافتها وقيمها الحضارية والإنسانية.

إن جانباً أساسياً من تسهيل تحقيق مخططات طمس الهوية لدى الجمهور العربي لأهدافها يعتمد على إفقادهم اليقين بثقافتهم وإيهامهم بأن التقدم لن يحدث إلا إذا انتموا لثقافات أخرى أكثر تقدماً، وبالتالي علينا جميعاً إعلاماً ومؤسسات ثقافية، مواجهة تلك المخططات عبر الاهتمام بالتأكيد على أن التقدم ليس مرادفا للثقافة الغربية والتخلي عن الثقافة الوطنية والقومية، لأن العرب في الحقيقة كانوا من أبرز المساهمين في النهضة الغربية التي قامت على منجزات العرب في العلوم والفلك والرياضيات وغيرها من مجالات العلوم والفكر والفلسفة.

الأصولية الدينية والهوية العربية

كما ينبغي التنبيه، في الوقت نفسه، على أهمية التفريق بين استعادة الهوية والدور الذي تلعبه الجماعات التي تدعي الأصولية بزعم أن هذه الشكليات الدينية ومظاهرها كالحجاب واللحية وكراهية الدنيا وفكر الاتكال التي تدعو وتبشر بها على حساب الجوهر هو السبيل لاستعادة الهوية، فهذا الزعم أيضا هو في الحقيقة ليس سوى وجه آخر من وجوه المخططات الخاصة بغسل عقول الشباب بأفكار انهزامية وانتحارية لأجل مصالح سياسية تؤدي إلى تمزيق المجتمعات العربية وهدم كيانها مساهمة لاإرادية في تمهيد الأرض لنجاح مخططات الغربنة الذكية التي يعمل بها الغرب منذ مئات السنين لنشرها في مفاصل مجتمعاتنا العربية، وهو أبعد ما يكون عن الواقع وعن جوهر الدين الذي شدد على قيمة العقل والفكر والتفكير كمظهر من مظاهر المعرفة والتقدم للمسلمين، وكذلك الأديان كافة كانت تحرض علىالأخذ بأسباب العلم.

فبعد نحو ثلاثة عقود من سلوك التطرف والغلو والإرهاب التي تستبيح قتل الأبرياء والعزل وتزعم أن ذلك في سبيل الدين، ثبت أنها ليست من الدين في شيء، كما أن التاريخ الإسلامي الذي يزعم أغلب ممثلي تلك الحركات المتشددة أنه مرجعيتهم لا يمتلك شواهد من هذا النوع.

إن الناتج الوحيد لظاهرة التطرف والغلو الديني الداعي لنبذ الواقع والعودة إلى الوراء، عبر الشواهد التي تحيط بنا اليوم من كل اتجاه، اقتصرت على إثارة الفتن، والصراعات الطائفية، التي بلغت حداً كبيراً من العنف كما نشاهد من حولنا على امتداد الأرض العربية شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، وهذه ظاهرة تعبّر عن عمق أزمة الهوية كما شأن الشواهد المثيلة في التاريخ.

فقد دلّت أمثلة عديدة في التاريخ على أنّ الفتن والحروب الأهلية والأعمال الإرهابية ذات الطابع العبثي تنتج عن أزمة في الهوية الجماعية وتفكّك عناصرها الرئيسية التي يفترض أن يكون دورها الرئيس تشكيل وحدة المجتمع وتآلف عناصره المختلفة من ناحية أصوله العرقية والقبلية واللغوية والدينية والمذهبية والمنطقية وتجعله يقبل نظام الحكم والتراتبية الاجتماعية الناتجة عنه.

وهذا هو القاسم المشترك في الفتن الطائفية التي كانت موضعها مجتمعات عربية إسلامية كمجتمعاتنا، أو أي مجتمعات أخرى مثل روسيا وكمبوديا وغيرهما، مما يشير إلى أن الطابع العام للظاهرة واحد يتمثل في أزمة هوية، بينما تتخذ القوى المتطرفة الشعارات التي تراها أكثر قبولاً لها.

إن رسالة الدين جاءت لتوحد وتجمع، وخاصة الدين الإسلامي، دين الوحدة، ولرفض التجزئة والانقسام، ولم يتعارض يوما مع العلم، ولا مع الأخذ بأسباب التقدم والرفاهية والعمل الجاد، وإعمال العقل والأخذ بأسباب التقدم،بكل روافده من علوم وفلسفة وفكر، وهذا هو ما نفتقده اليوم بالفعل لكي نتمكن من استعادة هويتنا العربية المستلبة، ولكي نستعيد بالتالي دورنا كقوة فاعلة في المجتمع الدولي، بعد أن نعالج العديد من مشكلاتنا وأزماتنا الداخلية، خاصة أننا نعيش الآن عصراً أصبحت سمته الأساسية العولمة، وبالتالي فإن ضرورة استعادتنا لهويتنا لم يعد مجرد مشروع مؤجل قدر ما أصبح مسألة مصير، فمن دون هويتنا قد يصبح مصيرنا مثل كل الحضارات التي انتهت، وبادت بعد أن سادت لأنها استكانت لطمس هويتها حتى ذابت تماما أو شوهت بحيث أصبحت مسخاً، أو نادرة من نوادر الضعف الذي يجعل شعوباً وحضارات تهوي إلى الهاوية دون أن يأبه بذلك أحد.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*