رسالة مفتوحة إلى السيد عمرو موسى القمة الثقافية المنتظرة

الدبلوماسي الكبير الأستاذ عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية

          كنت أستمعُ إليك بإعجاب بالغ وأنت تخاطب العرب في مدينة سرت، لأنك كنت تتحدث بلساننا جميعاً، نحن المشارقة والمغاربة، نحن الأطراف والمراكز، نحن الشمال والجنوب، نحن المثقفين العرب. كنت تنقل رغبتنا للقادة الذين حضروا أو أوفدوا من ينوب عنهم في قمة جاءت وسط أحداث شائكة، كان الجميع يفكر في كل شيء، وكنت أنت تفكر في أهم شيء، الثقافة العربية.

  • إذا كان سعينا في الوحدة الاقتصادية قد تراجع، وإذا كان مسعانا في الشراكة الرياضية قد تمهل، وإذا كان دربنا في الشراكة الاجتماعية مكبلاً بما يعرقله، وإذا كانت اتفاقياتنا للدفاع المشترك قد سكنت الأدراج، فلنأمل بأن تكون خطواتنا نحو القمة الثقافية أكثر تفاؤلاً.
  • جدول القمة الثقافية المنتظرة يجب أن يصوغه المثقفون والمبدعون أنفسهم وأن يحددوا لقادة أمتهم تصوراتهم لطريق النهضة.
  • الثقافة العربية تعول كثيراً على نجاح التنمية البشرية، فلا قراءة من دون قراء، وليس هناك قراء من دون محو للأمية.
  • إذا كان من أمل في القمة الثقافية المنتظرة فهو الطموح بأن توسع الآفاق للإبداع العربي وأن تزيل سطوة الرقابة العمياء وأن تتحرر الحروف لتنبت لها أجنحة تحلق بثقافتنا العربية بعيداً عن قيود التخلف وردّة الجاهلية.
  • إن التسابق على استيراد ثقافة الآخر ولغته، فقط كما نستورد كل شيء، لن يصنع لنا ثقافة جديدة.
  • نستورد ثقافة لمستهلك مستورد أصلاً وننسى شعوبنا وتاريخها وتراثها ومستقبلها أليس ذلك  استنزافاً للثروات التي تحتاج إلى ترشيد يحولها لإقامة بنية تحتية لشعوبنا؟!.

 

ويأتي إعجابي من وعي بقراءة تاريخ أمتنا المعاصر وهي الأمة التي لم تترك سبباً إلا وفرقها، من صراعات حدودية، إلى نزاعات قبلية، وسياسات وهمية لا تقف على أرض الواقع، وبين حروب أهلية وفتن طائفية. فأنا أدرك وأؤمن – مثل كل مثقفي هذه الأمة – بأن النسغ الثقافي وحده هو الذي يربط بين جينات الأمة العربية، وأنه الوحيد القادر على حفظ النسل لهذه الأمة، وأن يعيد إليها شبابها، وأن يكون مشعلاً لأجيال قادمة تحاول ألا تتفرق بها السبل.

ولست ترى إعجابي مفرداً، فها أنت منذ أعلنت عن سعيك لإقامة قمة ثقافية عربية، بعد دعوة مؤسسة الفكر العربي، ودعوة اتحاد الكتاب العرب، ترى المفكرين والمبدعين يتنادون ليزكوا إقامة هذه القمة الثقافية المنتظرة في أسرع وقت لخوفهم – وهم على حق – من أن أمتهم تواجه خطراً محدقاً يهدد وجودها كما لم يهدد من قبل.

ها هم يتنادون ليقدموا لك أفكاراً ومشاريع يكادُ يكون عمرها قرناً، أو يزيد، فالنهضة في بلادنا العربية تراوح مكانها طوال تلك العقود، والأفكار قد تولد مجهضة، ولذلك تنادى وجاءك هؤلاء، وسيجيء من بعدهم كثيرون، حاملين أحلامهم على أكفهم، آملين أن تصبح بين يديك حقيقة، لا أن تتحول في أيديهم إلى موئِد أفكار وأكفان طموحات.

الثقافة والتعليم أساسا التخطيط

إن هذا إيمان باستحقاق «الثقافة والتعليم» بمؤتمرات قمة، ولا أقول بمؤتمر قمة واحد، متخصصة أسوة بالاقتصاد والأمن والسياسة. فمن هنا يبدأ استقرار الأمم وبناء نهضتها، وهنا يكتب للتنمية نجاحها، فالتنمية قوامها «التعليم والثقافة». ولن تنجح خطط اقتصادية بغيرهما. ولن يعم أمن دونهما. أليست «الثقافة والتعليم» أهم عناصر مقاومة التخلف وتغييب الوعي في المجتمع؟

السيد الأمين العام لجامعة العرب..

لا أزعم أنني قرأت الكثير مما قدم إليك أو أنني أتنبأ بما سيأتي به كثير من حملة الثقافة، لكنني على يقين من أن جميعهم يتفاءلون خيراً، وأن جميعهم يريد لهذه الأمة صلاحاً وإصلاحاً عاجلين.

كان يمكن أن آتي لأطرح عليك هذه الأفكار، كعهد الأصدقاء المبدعين والمفكرين وصناع الثقافة في عالمنا العربي، ولكنني رأيت أن تكون رسالتي إليك مفتوحة ليقرأها الجميع، وخاصة المثقفين والمبدعين، أهل الدار، فيناقشوها علانية، فالشفافية في القمة الثقافية المنتظرة هي المحرك الرئيسي لنجاحها.

لتكن أفكاري كواحد من المهتمين بالشأن الثقافي والتعليمي، على مائدة باتساع خريطة الوطن العربي كله. وإذا كان سعينا في الوحدة الاقتصادية قد تراجع، وإذا كان مسعانا في الشراكة الرياضية قد تمهل، وإذا كان دربنا في الشراكة الاجتماعية مكبلاً بما يعرقله، وإذا كانت اتفاقياتنا للدفاع المشترك قد سكنت الأدراج، فلنأمل بأن تكون خطواتنا نحو القمة الثقافية أكثر تفاؤلاً، وأمضى سلاحاً، وأقوى أثراً وأكثر انفتاحاً على بعضنا بعض، وربما تكون مفتاحاً لما انغلق من أبواب.

إنني آمل أن تكون القمة الثقافية المنتظرة قمة نوعية تفتح باباً جديداً لحرية المواطن العربي المبدع، وأن تكون سماؤها أرحب مما هي الآن لكثير من مفكرينا، وأن تكون الأرض العربية مستقراً آمناً لحرية الفكر والإبداع العربيين. وربما نحتاج لكي يتحقق هذا وتمهد الأرض لاحتضانه إلى أن نفكر بالتالي:

أولاً: إن جدول القمة الثقافية المنتظرة يجب أن يصوغه المثقفون والمبدعون أنفسهم وأن يحددوا لقادة أمتهم تصوراتهم لطريق النهضة، لا أن يفرض جدول أعمال القمة الثقافية أجهزة بيروقراطية لا ترى أجمل ولا أفضل مما هو قائم الآن. إن مبادرة المثقفين هي أمر مهم، والأكثر أهمية، هو أن تكون مبادرتهم جماعاً لكل الأطياف الفكرية، وأن يسبق انعقاد تلك القمة الثقافية المنتظرة اجتماع تحضيري يجمع آراء الجميع، ليكونوا هم من يضعون أجندة قمتهم، ولن تكتب تلك الأجندة الإدارات الفنية بوزارات الثقافة والإعلام، المنوط بها تنفيذ السياسات في دولنا العربية.

الثقافة شأن المثقفين

إننا لا نستغني عن آراء الفاعلين في تلك الأجهزة، ومقترحاتهم، لأنهم الأقدر على وضع خطط التنفيذ ومخططات البرمجة والإدارة، ولكن تبقى الثقافة شأن المثقفين والمبدعين، لأنهم صناعها وقادتها، وهم بناة المجتمعات، وحاملو مشاعل التنوير للشعوب والحكومات بأفكارهم وقراءتهم للمستقبل، أليسوا عين الأمة الفاحصة، وبصيرتها الثاقبة، وقلبها النابض، أليس ما سيصاغ في قرارات القمة الثقافية المنتظرة سيمسهم سلباً أو إيجاباً؟

ثانياً: إن الثقافة العربية تعول كثيراً على نجاح التنمية البشرية، فلا قراءة من دون قراء، وليس هناك قراء من دون محو للأمية. لذلك يجب ألا تفكِّر قرارات القمة الثقافية المنتظرة وتصوراتها وتوصياتها وخطط عملها بمعزل عن التنمية البشرية في مجال التعليم. فالتعليم العربي اليوم هو الآفة التي تنهش في بنيان التقدم وتعيق التطور في كل شئون الأمة.

ثالثاً: الثقافة العربية ليست مادة مفردة منفصلة يمكن تدريسها في منهاج تعليمي، ولكنها نسق حياة، ولهذا لا ترتبط بالقراءة فقط، وإنما هي جماع للفنون والآداب، ولن يكون إحياؤها إلا عبر إتاحة المواد السمعية والبصرية والمكتوبة لمختلف طبقات الشعوب العربية، فلا تقتصر فعاليات الثقافة على العواصم، بل علينا أن نمد دماء جديدة في شرايين الوعي لدى أجيالنا الجديدة، فيصبح هناك بكل مكان، دانٍ وقاصٍ، دار للمسرح وقاعة للسينما ومكتبة للعامة. وقبل هذا كله نفكر في بناء المعاهد والجامعات ونصنع القيادات الكفؤة ونسلمها بناء أجيالنا الجديدة بثقة واطمئنان.

الرقابة العمياء

رابعاً: إن المعاناة التي تكبدها المبدعون في العقود الأخيرة تواترت حتى أصبح كل من يحمل قلما مرتاباً به! وإذا كان من أمل في القمة الثقافية المنتظرة فهو الطموح بأن توسع الآفاق للإبداع العربي، وأن تزيل سطوة الرقابة العمياء، وأن تتحرر الحروف لتنبت لها أجنحة تحلق بثقافتنا العربية بعيداً عن قيود التخلف وردة الجاهلية، وعنف الاضطهاد. ولهذا يحلم المثقفون بأن تصدر القمة ما يضمن الحرية والحماية للثقافة بكل مكوناتها، وللمثقفين بكل اتجاهاتهم الفكرية وتنوعها. وأن يحظى الإبداع بكل تجلياته بمزيد من الحرية والفضاء المفتوح، سواء كان عبر النشر الورقي أو الإلكتروني، أو أي وسيط آخر.

خامساً: إن الاحتفالات والمهرجانات الثقافية التي أصبحت ظاهرة في دولنا العربية يجب ألا تكون بديلاً للفعل الثقافي والإبداع الفني، فالأصل هذا وليس المهرجانات الصاخبة التي تستنزف المال والوقت ولا تترك أثراً في الأرض، فهذه المهرجانات تبقى إداة للتحفيز الإعلامي وإشاعة البهجة، وهذا دورها لا تزيد عليه، ولا تصبح بديلا للإبداع.

سادساً: القطاعان، الخاص والأهلي، مدعوان للقيام بدورهما في الحراك الثقافي، لأن عليهما دوراً قومياً ومسئولية اجتماعية ينبغي ألا تترك في مهب الريح، وعلى القمة أن تفسح مجالاً لهذين القطاعين، تشجعهما وتمدهما بالدعم والمساعدة، وتطلق لهما حرية المشاركة في التنمية الثقافية.

سابعاً: أن يكون من أولويات القمة الثقافية المنتظرة حماية الاختلاف الفكري، لكي تتحول السلطات لممارسة دورها في دعم المساواة، واحترام الآخر، وعدم التخندق مع طرف ضد آخر.

ثامناً: على القمة الثقافية المنتظرة أن تصدر ما يؤكد انحيازها للمستقبل، فتفتح سدوداً أغلقتها مياه راكدة، لتطهرها مما علق بها من نباتات ضارة، وحشرات قاتلة، وسموم مهلكة. إن هذا هو السبيل الوحيد لكي تتدفق الأفكار نهراً نغتسل فيه كل يوم ألف مرة ومرة، فتتطهر مجتمعاتنا، وعقولنا، مما علق بها من خرافة، وانغلاق، وخوف، يقيم بيننا وبين الحياة سداً يعيق اكتشاف منجزاتها الخارقة في كل مجال.

ثقافة مستوردة

السيد الأمين العام لجامعة العرب..

دعني أعرض عليك بعض القلق مما يساورني بشأن القمة الثقافية المنتظرة. أعني بهذا ظاهرة تتفشى في بلدان الخليج العربي، ألا وهي استيراد الثقافة. إن هذا «الاستيراد» المستبد هو جزء من نمط حياة شائع الآن يستورد كل شيء، من «الغترة» إلى «العقال»، فـ«الدشداشة»، وخياطها، مروراً بما تنتعله الأقدام، فضلا عن كل شيء تفكر به، من السيارة التي نقودها، إلى القلم الذي نكتب به! من أجهزة الاتصال، إلى أدوات الفرجة وآليات المشاهدة. بل لعلي أصل بتلك الظاهرة إلى ما فعلته في موائدنا العربية، حتى أصبح كل شيء في خليجنا العربي مستورداً، ولا نصدر سوى «النفط» – وهو، وياللعجب، مستورد أيضاً من باطن الأرض، أنعم الله سبحانه وتعالى به علينا، كما منَّ علينا بالبحر والصحراء، «وأفكار» عفى عليها الزمن نصدرها للعالم، وقد أصبحت تلك الأفكار أداة للآخرين يستخدمونها ضدنا، للتشهير بشعوبنا العربية، والاستهزاء بتراثنا العريق وديننا الحنيف.

إن التسابق على استيراد ثقافة الآخر ولغته، فقط كما نستورد كل شيء، لن يصنع لنا ثقافة جديدة، ولن يصنع لنا عِلْماً ننتفع به، نستورد ثقافة لمستهلك مستورد أصلاً، وننسى شعوبنا وتاريخها وتراثها، والأهم مستقبلها! نغلق مركزاً لدراسة تراثنا وفنوننا ونفتح معهداً لدراسة فنون وتراث الآخرين!

أليس ذلك، مما يجري حولنا، استنزافاً للثروات، التي تحتاج إلى ترشيد، يحولها لإقامة بنية تحتية لمستقبل شعوب هذه المنطقة وأبنائهم وجوارهم العربي؟ إن هذا هو السبيل الأوحد لضمان مستقبل آمن للأجيال القادمة في المنطقة. فالثروة من دون ترشيد تصبح وبالاً إن لم تتحول إلى قاعدة للإنتاج. ومازلت أكرر ما قلته سابقاً، بأننا في الخليج العربي لانزال نشيّد الحجر ونهمل البشر، نتنافس ببناء تتطاول أحجاره وأنماطه وأنواعه وارتفاعاته، لكننا، إلى الآن، لم نتسابق لإعلاء قيم تنمية البشر الذي يصنع الحجر، لا العكس. ويبدو أن هذا هو حال كل أوطاننا العربية. ولعل القمة الثقافية المنتظرة تفتح لنا باب الأمل، وتبشرنا بعهد جديد نبني فيه ثقافتنا الحقيقية، بعد أن تنجح في الدفاع عنها، والحفاظ عليها والارتقاء بها. والرجاء معقود عليكم، أن تنطلق منكم، بحكم منصبكم وفكركم، مبادرة تسبق المؤتمر تجمع بها آراء وتصورات وأفكار نخبة المفكرين والأدباء والشعراء والروائيين والنقاد العرب، من شتى أوطانهم ومهاجرهم ومواقعهم، لتصاغ في بنود يسترشد بها قادة العرب في قمتهم الثقافية المباركة المنتظرة.

وتقبل منا خالص التقدير والتحية..
سليمان العسكري
الكويت 1/ 7 / 2010

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*