نشر الإسلام أسئلة الحاضر وإجابات الأمس

  • الفتوح جعلت اللغة العربية لغة النخبة الجديدة حتى أنه في العام 700م أعلن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان أن اللغة العربية وحدها هي التي ستعتمد في دواوين إدارة الدولة وكانت تلك بداية لتعلم اللغة العربية على نطاق واسع
  • لغة المنتصرين لم تكن أبجدية وحسب بل كانت أيضا مكانة مرموقة .. فالرجال الذين استطاعوا البرهنة على أن أسلافهم قد شاركوا في الفتوح الباكرة كانوا يشعرون بأن من حقهم الحصول على رواتب من بيت المال

في منتصف القرن الثامن الميلادي وصلت الدولة الإسلامية إلى حدودٍ شاسعة، بقيت صامدة لقرون ثلاثة تلتها، ولم يضف إليها لاحقا سوى فتح جزيرتي صقلية وكريت في البحر المتوسط. هكذا أصبحنا أمام إمبراطورية إسلامية تماثل حجمًا وسكاناً، أو تكاد، الإمبراطورية الرومانية في أوجها، ولم يكن يوازي هاتين الإمبراطوريتين مكانة سوى حكم أسرة تانج في الصين. هذه الفتوح التي أسست لحضارة إسلامية بقيت شواهدها، حتى بعد أن اختفت الحدود القديمة، وظهرت المخططات والتحديات الجديدة، هي التي تدفعنا لمساءلة التاريخ حول أسرارها، أسئلة تتعلق بالسرعة القياسية لتلك الفتوح، والمدى الجغرافي الشاسع لها، وتتناول مقومات البقاء الثابت الذي ظلت عليه.

تلك الأسئلة وسواها هي موضوع كتاب هيو كينيدي، عن «الفتوح العربية الكبرى»، التي وضعت عنوانا فرعيا له: «كيف غير انتشار الإسلام العالم الذي نعيشُ فيه». الكتابُ الذي صدر في مصر بترجمة الدكتور قاسم عبده قاسم يحاول أن يفسِّر الحاضر في مرآة الأمس، وما أكثر الأسئلة، في الإسلام وحوله، التي بدأنا نقرأها في الألفية الثالثة، حتى بعد زوال الأثر السياسي للفتوحات العربية، وعودتنا لسُكنى حدود خريطة قسمها الغرب لنا في القرن العشرين!

المؤلف الذي درس اللغة العربية في مركز الشرق الأوسط للدراسات العربية في بيروت، واستكمل دراسته للعربية، مع اللغة الفارسية في كامبردج، له مؤلفات في المجال نفسه عن عصر الخلافة العباسية الأول، وعن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وعهد  الخلفاء الراشدين، وقلاع الحملات الصليبية والإسلام في إسبانيا والبرتغال، فضلا عن محاضرات يلقيها عن التاريخ المعماري.

وقد أراد كينيدي أن يقدِّم كتابًا عامًا، لقارئ غربي، حتى إنه لم تفته أن يضمّن الكتاب صورًا لشواهد حضارية، وخرائط تلك الفتوحات التي قسمها بين فتوح الشام، وفلسطين، والعراق، ومصر، وإيران، والمغرب، وبلاد ما وراء النهر، وسمرقند وأقصى المشرق والمغرب.

حاول المؤلف أن يتناول وقائع الفتوح الإسلامية معيدًا بناءها في شكل سردي صريح، وقد استخلص من تلك المسيرة الحربية لجيوش قليلة العدد مفعمة بالإيمان، إنها فتوحاتٌ تميزت بالشجاعة والجسارة، دون أن ينسى الإشارة إلى ما شابها من قسوة وتدمير، محاولا تقصي البراهين على ما يقوله، والأدلة على ما يدونه.

فبعد أن كان الإسلام في أيدي وقلوب وعقول سكان الجزيرة العربية وأطراف من صحارى الشام والعراق، أصبح دينا لمناطق لا تتحدث بلغته، وشريعة لبلدان تختلف تقاليدها.

لغة المنتصرين

الشرق الأوسط الذي فتحه المسلمون في تلك العقود المبكرة كان مجتمعًا متعدد الثقافات، وعالمًا تعايشت في رحابه لغات وديانات مختلفة فوق المساحة الجغرافية نفسها. وإذ تنجح الفتوح تصبح اللغة العربية لغة النخبة الجديدة، حتى أنه في العام 700م أعلن الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان أن اللغة العربية وحدها هي التي ستعتمد في دواوين إدارة الدولة، وكان ذلك المرسوم فعالا، وأصبح بداية لتعلم اللغة العربية على نطاق واسع، فمن كان يريد وظيفة في الجهاز الإداري المتوسع بالدولة الإسلامية، سواء كان عربيا أم غير عربي في نسبه وتربيته، سيكون مضطرا إلى تعلم اللغة العربية كتابة وقراءة، وكانت النقوش على العملات، والإشارات على بوابات المدن والدروب، كلها باللغة العربية. وكان هذا العصر بداية ، أيضا ، لجمع الموروثات العربية عن الفتوح وتدوينها.

لم تكن الحكايات العربية عن الفتوح سرديات يسيرة لمؤلف وحيد عن أحداث مباشرة، بل كانت تآليف متعددة الطبقات تمر في مراحلها المختلفة بتدوين وتحرير وإعادة كتابة، وتبدأ المرحلة الأولى بالنقل الشفاهي للقصص التراثية عن الأعمال البطولية في المعارك، تسجلها – كما كان العهد في الجاهلية. قصائد البطولات وسير الملاحم. وتتفق جميعها في الإيعاز بأن نصر المسلمين كان برهانا قاطعًا على أن الله سبحانه وتعالى معهم، يؤازرهم بموت أعدائهم، وارتفاع حصيلة الغنائم والأسلاب.

أما المرحلة التالية فكانت جمع تلك المادة الشفاهية وتدوينها، ويشير إلى أن تلك الخطوة بدأت في القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، خشية خطر ضياع تلك القصص التوثيقية، وكانت ذات ضرورة لحفظ سجلات الحكم الإسلامي في العراق ومصر آنذاك. وكان الانفجار المعرفي الأولي في إنتاج الكتب متزامنا مع إنتاج الورق الذي حل مكان الرق (جلد الحيوان المجفف)، وذلك في القرنين التاسع والعاشر الميلاديين.

محرِّرون .. ومحرَّرون

والطريف أن المؤلف ـ في حديثه عن المؤرخين المسلمين في القرنين الثالث والرابع للهجرة ـ وصفهم بكلمة (محررين)، مستندًا إلى حقيقة جمعهم للتراث التاريخي الشفهي المتاح عن الفتوح الإسلامية المبكرة، ووضعوه في كتبهم، ولكن مترجم الكتاب استعان بكلمة (المؤرخين) التي عهدها القارئ العربي وصفا لكل مدوني تلك الأحداث.

على أن لغة المنتصرين لم تكن أبجدية وحسب، بل كانت أيضا مكانة مرموقة، فالرجال الذين استطاعوا البرهنة على أن أسلافهم قد شاركوا في الفتوح الباكرة كانوا يشعرون بأن من حقهم الحصول على رواتب من بيت المال، أما سكان المدن فربما كانوا يأملون في تخفيف الضرائب عنهم، لأنهم استسلموا صلحًا للجيوش المسلمة، وهكذا تم حفظ قصص الفتوح، ليس بسبب الاهتمام بإنتاج سردٍ تاريخي واضح وحسب ، بل لأنه كان هناك شعور بأن ذلك أمرٌ مفيد – ولذلك فإن ما كان غير مفيدٍ ـ مثل التأريخ التتابعي الدقيق للأحداث – كان يُلقى به في زوايا النسيان، وهو ما أنتج فجواتٍ تاريخية بين الأحداث، كما أثار العديد من الأسئلة حول التناقضات التي تضمها قوائم المحاربين والمنتصرين في معركة ما. لذا تجد القصة التاريخية نفسها حائرة بين أسلحة المحرِّرين، قادة المعارك، وأقلام المحررين مدوني المخطوطات.

وقد أدرك المحققون لتلك التواريخ الطبيعة المرتبكة، والمتناقضة، لما ورد في المصادر العربية عن تلك الفتوح، وظهر في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين من يبحثون على نطاق أوسع لبيان صدقية هذه التواريخ، الآتية عبر الموروثات الشفاهية.

فقد لاحظ ألبرخت نوث، في ألمانيا، كيف أن الكثير من حكايات الفتوح كانت عبارة عن صياغات نمطية متكررة في الكثير من الروايات المختلفة، وكانت تنقل برمتها وبعض تفاصيلها من معركة إلى أخرى.

فالروايات التي تتحدث عن كيفية سقوط المدن في أيدي قادة الفتوح العربية بسبب خيانة بعض السكان موجودة بكثرة في حالات مختلفة تتم روايتها بشكل متشابه وبدرجة يصعب معها أن تكون حقيقية، كما بات أيضا ميخائيل كوك، وباتريشيا كرون (لندن)، وكثير من المؤرخين مترددين في أخذ تلك الحكايات على محمل الجد، أو اعتماد التفاصيل التي تحتويها.

لكن المؤلف يقف أمام كل هؤلاء يراجعهم بضرورة التحقق من آرائهم، ليس في ميزان ما رأوه من تناقض، ولكن لأن هذه الروايات العربية لتاريخ الفتوحات يمكن أن نتحقق منها – أحيانا – في مقابلة لها بالمصادر من خارج التراث الأدبي العربي.

فالحولية السوريانية، أو التاريخ الأرمني الذي كتبه سيبيوس، وكلاهما روايات لمسيحيين دُوِّنتْ في غضون قرون من تلك الحوادث التي يتناولونها، وهي كذلك تواريخ أقصر طولا وأقل تفصيلا من الروايات العربية، تؤكد الإطار العام للتاريخ العربي؛ بل إنهما في أحيان أخرى يؤكدان التفاصيل. ومثالا، فحين تذكر المصادر العربية أن مدينة (تُسْتر) جيدة التحصين سقطت بأيدي المسلمين بسبب خيانة بعض السكان، الذين بينوا للمسلمين طريق دخول المدينة عبر قنوات الماء المغطاة، نجد أن مصدرًا سوريانياً مسيحياً يحكي القصة نفسها بشكل مستقل، بما يوحي بسقوط المدينة بما ذكرته المصادر العربية، وبما يؤكد صدق ما يشكك به المؤرخون المحدثون في الغرب حول المناطق الأخرى كذلك.

عمارة الأفكار

في غضون قرن بعد الفتوح العربية الكبرى، قامت مساجدٌ في الشام بدمشق وبيت المقدس وجرش وعمان وبعلبك، وفي مصر بالفسطاط وفي إيران باصطخر وسوسة. صحيح أن قليلا من تلك المساجد الأولى لم يبق إلا في كتب الرحالة والمؤرخين العرب، ولكن أدلتها الأثرية لاتزال حاضرة. حضر المسجدُ وحيدًا شاهدًا حضارياً مادياً وروحانياً، ولم تحضر ـ في بداية الأمر ـ مظاهر حضارية مادية أخرى، لأن الأمر احتاج إلى أجيال لتطوير صناعة – مثل الخزف على سبيل المثال – لصيقة بالحضارة الإسلامية.

ولكن ما حضر كان أهم، إذ جاءت القيم التي يتحلى بها الكثيرون من بدو شبه الجزيرة العربية، الذين شاركوا في الفتوح الإسلامية الباكرة. فالشعراء يمجدون السرعة في الكر والفر والقوة في المعركة، وامتياز جيادهم، وجسارة أفرادهم، وقد أخذت جيوش الإسلام إلى ساحة المعركة الكثير من تلك الأفكار.

كما كانت هناك علاقات تكافلية حميمة تربط بين البدو، سكان الجزيرة العربية والتجار، والمزارعين في المناطق المستقرة، حيث ضمت بعض القبائل بطونا من المستقرين المزارعين والرعاة الرحل على حد سواء، وكان ذلك التكافل أساسًا قامت عليه جيوش الفتوح الإسلامية الباكرة.

وقد أولى المؤلف جهدًا لتفسير مفهوم الجهاد من خلال آيات القرآن الكريم، إلا أنه قصر جهده على الآيات التي تحمل مفاهيم القتال وحدها، من ناحية، كما أنه لم يفرق بين الآيات التي تتحدث عن الكفار، وتلك التي تتحدث عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولم يحاول الاستفادة من آراء الفقهاء المسلمين الذين عالجوا مفردة الجهاد وموضوعها، فتحدث عن (القتال) ظانا أنه يتحدث عن (الجهاد)، والفارق بينهما كبير وخطير، ويوضح كم المغالطات المرتبطة بالدين الإسلامي، والفتوحات العربية، مثلما يكشف عن تلك الصورة النمطية السائدة عن الإسلام، وهي الصورة المستنسخة اليوم في الغرب عبر كتابات المفكرين، وقرارات السياسيين، والإنتاج الإعلامي مرئيا ومسموعًا ومُدوَّنا.

في شتاء عامي 636م و637م أرسلت قوة من الجيش المسلم يقودها أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد بالاتجاه شمالا من دمشق إلى حمص، التي كانت حاضرة رومانية مهمة، وحاصروها رغمًا عن برد قارص ظن المدافعون عن المدينة أنهم ظافرون، لأن العرب لا يرتدون سوى النعال، ولكن الحصار استمر حتى الربيع، وارتفعت الأصوات في المدينة تطلب الصلح، خاصة أن رواية أخرى تشير إلى أن أسوار المدينة تعرضت لزلزال فدمر جلها، تأكيدًا للعناية الإلهية للفاتحين، والمهم أن الجيوش العربية عقدت الصلح، ودُفعت الجزية لهم، والمهم أن الضرائب تنوعت وفقا لرخاء بعضهم عن الآخر، وضَمِنَ الفاتحون حياة السكان، وحماية ممتلكاتهم، وسلامة أسوار مدينتهم، وأمان سواقي الماء، وطواحينهم، وكذلك كنائسهم، فيما عدا كنيسة يوحنا التي ورد في الطبري أنه تم تحويلها إلى مسجد. كما تصالحوا – في رواية أخرى – على اقتسام الدُّور، فسكن المسلمون كل الأماكن الخالية وكل حديقة مهجورة، ليبدأ الإعمار وفقا لما جاءت به الجيوش الإسلامية من أفكار.

ضعف مقيم.. وقوة قادمة

كان هناك، إذن دافع ديني للفاتحين، قوّى لديهم إيمانهم بالدين والجنة في الآخرة للشهداء منهم، وامتزجت تلك المثل التي حفزتهم بمثل عليا أخرى وجدت حتى قبل الإسلام، يميزها الإخلاص للقبيلة ورعاية وشائج القربى وتمجيد المحارب البطل.

وقد رسخ المزيج الجديد من القيم الإسلامية والبدوية لدى تلك الجيوش، فعادت كأنها لا تُقهر. وكانت ملامح القوة القادمة التي تدعمها الأفكار ممثلة في جيوش المسلمين يقابلها ضعف للبنى السياسية القائمة، وهو الضعف الذي ضمِنَ نجاح الجيوش العربية.

لم تكن الجيوش هجرات جماعية، بل ترك الفاتحون نساءهم وأطفالهم وشيوخهم وراءهم، وهو ما جعل من تلك الجيوش قوات نظامية، ولم تكن عائلات المحاربين تنضم إليهم إلا بعد تحقيق النصر. كان على هؤلاء أن يحاربوا حتى ولو قل الزاد، فقد كانت لديهم خشونة في العيش لا تبارى مقارنة بهؤلاء المنعمين في قصورهم والمستقرين في مدنهم. وكما كانت السماء جزءًا مهما من حياة الصحراء، كانت لهم هاديا مبينا في الليل فخف تحركهم ليلا، وكانت الصحراء والليل حليفين لهم في كل معركة.

لكن الإشارة الواضحة في قوة تلك الجيوش الفاتحة تكمن في نوعية القيادة، فقد أنجبت النخبة من سكان مدن الحجاز، ومعظمهم من قريش والقبائل المرتبطة بها، معظم القيادات العليا، ولذلك تميز خالد بن الوليد في الشام، وعمرو بن العاص في مصر، وسعد بن أبي وقاص في العراق. ويشير المؤلف إلى جيل تال لا يقل عن سابقيه، متذكِّرًا عقبة بن نافع في شمال أفريقية، وطارق بن زياد وموسى بن نصير في الأندلس، وقتيبة بن مسلم الباهلي في بلاد ما وراء النهر، ومحمد بن القاسم في السند.

كما تتحدث المصادر أيضا عن مجالس الحرب، وما حرص عليه هؤلاء القادة من مشورة أهل الرأي، بما يؤكد على طبيعة ديمقراطية للمجتمع المسلم الباكر. وكانت هذه القيادة – في جزء منها – نتاجًا للتقاليد السياسية في المجتمع العربي، فقد كانت القيادة تنتقل عبر الأجيال في عائلات بعينها، وداخل عشائر محددة، ولكن كان على كل قائدٍ أن يثبت نفسه، لأنه إن أخفق لا يشفع له كل ذلك (الماضي) ويتم استبداله والبحث عن سواه. هكذا يذكر المؤلف كيف كانت دهشة الملكة الأم الفارسية في أن أبناء القائد الفاتح قتيبة بن مسلم الباهلي لم يرثوا مكانه، وهو ما يضع الفارق بين الثقافتين، كما أن بقاء القادة المستبدين غير الأكْفاء لم يكن يدوم طويلا، ذلك أن عبيد الله بن أبي بكرة في هراة (أفغانستان الآن)، والجنيد بن عبد الرحمن في بلاد ماوراء النهر كانا رمزين للفشل، فقصرت مدة قيادتهما، بل هجاهما الشعراء بقسوة.

وفي الوقت الذي كانت الكفاءة العسكرية في الإمبراطورية البيزنطية تتدهور باستمرار بسبب تمرد القادة العسكريين الراغبين في الاستيلاء على عرش الإمبراطورية، كان هناك تنظيم دقيق للعمل العسكري للفاتحين العرب، وما يذهل المؤلف في هذا الأمر هو الطريقة السلمية الطائعة التي تقبل بها قادة ناجحون، مثل خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وموسى بن نصير، أوامر عزلهم من مناصبهم، وإعادتهم إلى عاصمة البلاد لمواجهة المحاسبة.

مساءلة الحاضر، ودروس الماضي

إن قراءتي لكتاب  هيو كينيدي، عن «الفتوح العربية الكبرى»، لم يكن من أجل التفاصيل الكثيرة التي تضمنتها صفحاته، عن كل شاردة وواردة من الفتوحات، بقدر ما كان لاستخلاص أسباب هذا الانتشار الاستثنائي للفتوحات في وقت قياسي. وأقول إن محاولة فهم حاضرنا تبدأ من تلك اللحظة التي تركنا فيها مضارب الخيام في رمالنا العربية كي ننشر أفكارنا خارج الحدود.

لكننا إذا كنا نمزج في الماضي في فتوحاتنا العربية، بين السيف والقلم، سالكين الحزم أحيانا والسماحة حينا ، فإن فتوحات القرن الواحد والعشرين يجب أن تسلك طريقا آخر، يمكِّنُنا من تجاوز المساحات الجغرافية دون عوائق طوبوغرافية، ودون خسائر بشرية، ومن غير أن نحيد عن المسلك القويم الذي أمرنا به ديننا الحنيف. لقد فرض الفاتحون المنتصرون شروطا سهلة على المغلوبين المقهورين، وعقدوا اتفاقيات تحفظ أرواح هؤلاء وممتلكاتهم، بما في ذلك حقوقهم المرتبطة بدينهم، ولذلك لا يحق لنا في فتوحاتنا اليوم – غير العسكرية بالطبع – أن نفرض على الآخر في علاقته معنا شروطا أكثر إجحافا مما كان قبل نحو ألف عام ويزيد!

كما ندَر – وهذا ما يذكره مؤلف غربي – أن يتعرض المهزومون من تدمير متعمد، أو تخريب مقصود، من قبل المسلمين، عكس ما اشتهر مثلا بذكر المغول في القرن الثالث عشر الميلادي من وحشية مدمرة، فقد كان العرب دومًا أقل طلبًا للموارد والخدمات من أسلافهم البيزنطيين والساسانيين، وهذا يؤكد أن الاعتدال في الحكم كان من آيات النجاح في الاستمرار به.

إن أسئلة الحاضر الكثيرة التي تبحثُ في الواقع الذي صرنا إليه، والصورة النمطية التي أصبحنا عليها، والحالة غير المقبولة لحضورنا في الإعلام، هي التي دعتنا لتقليب الصفحات، داعين إلى فتوحاتٍ جديدة، أدواتنا فيها التنوير، بالقيم النبيلة، والتحرير بالقدوة الحسنة، والانحياز إلى مسلك الديمقراطية وشروط العدل ومقومات الحرية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*