التجدد الحضاري

          تُخبرنا قراءة التاريخ أن الأمم الرائدة، والحضارات السائدة، تمر بمحطات اختبار، وأن هذه الاختبارات التي قد تطول عقودا أو قرونا تشهد حلقات انكسار وانحسار، تفقد فيها الأمم والحضارات رشدها، وتترجرج هويتها، قبل أن تعوِّل على أبنائها في العودة إلى مسارها الصحيح مرة أخرى، فإما تعود، وإما تبيد. هذا الوعي التاريخي يقودنا إلى سؤالين عن حال أمتنا، هل نشهدُ الآن تلك المرحلة الاختبارية الانكسارية الانحسارية؟ وإذا كنا قد وصلنا إلى دركها الأصعب، فكيف لنا أن نبدأ السير على طريق النهضة مرة أخرى، وأنّى لنا أن ندرك آلية تجددها الحضاري؟

  • أصبح تشبُّع العرب الفاتحين بثقافات الشعوب، التي فتحت أراضيها واحدًا من الأسباب التي تغذت منها حضارة العرب والمسلمين وأطلقت فيها دينامية البناء والتقدم
  • النهايات المرتبطة بالحضارات والنظم حديث ممتد يشغل بال الفلاسفة قدر ما يشغل علماء الآثار، وهو يبني شهرتهم جميعًا
  • سيادة الجمود الفكري والتكلس العقلي وتراجع العقل الاجتهادي، وهيمنة الخرافة ورفض الآخر، واحتقار العمل، أصبحت كلها ظواهر تشي بمقدار ما أصاب العمران الثقافي والاجتماعي العربي من خراب هائل
  • ليس في «التراث» تلك الحقيقة المطلقة التي تعلو فوق المنطق والعقل والتفكير أساسًا، وليس لدى «الغرب» تلك النجاعة التي تجعله مخالفًا لقاعدة (طعام زيدٍ سم لعمرو)

لقد ظل هذا الهاجس حول محنة الأمم يشغل بال المفكرين والمؤرخين والمثقفين على مر العصور، فظهرت الكتب التي تبشر بالبقاء أو تهدد بالفناء. وبنى عدد من الأقطاب شهرتهم على التنبؤ بالنهايات، فقرأنا لفرانسيس فوكوياما عندما كتب «نهاية التاريخ» مبشرا بأن الديمقراطية المعاصرة أصبحت منذ القرن التاسع عشر بديلا حضاريا للأنظمة الديكتاتورية، وأن تلك الديمقراطية «الغربية» هي الوجه الذي سيسود لينهي فكرة الصراع التاريخي بين «السادة» و«العبيد»، ولكننا بحاجة إليه اليوم ليفسر لنا كيف تحولت الديمقراطية الغربية إلى شكل جديد من الديكتاتوريات الطليقة، وكأنها تكتب هي نهايتها.

ولم تكن كلمات فوكوياما إلا إعادة صياغة لأفكار الفيلسوف الألماني هيجل في أوائل القرن التاسع عشر، الذي شبه المجتمعات بالأفراد الحاملين لمشعل الحضارة في سباق للتتابع، تنمو به الحضارات في ثلاث مراحل: حُكْم الفرد، فحُكْم طبقة من المجتمع، وأخيرًا حُكْم كل الناس.

نهايات وتنبؤات

هكذا كانت النهايات المرتبطة بالحضارات والنظم ما يشغل بال الفلاسفة قدر ما يشغل علماء الآثار، وهو يبني شهرتهم جميعًا. ونشير أيضا إلى فيلسوف ألماني آخر هو أوزوالد سبنجلر Oswald Spengler في كتاب صدر له قبل نحو 90 عامًا تحدث فيه عن «انحدار الغرب» ذكر أن الحضارة الغربية ستموت، لتحل محلها حضارة آسيوية جديدة.

كل يبحث وينقب فى تخصصه واهتمامه، وإذا كان هذا مسار المفكرين والمؤرخين والفلاسفة، فإن الانهيار لدى العلماء له أسباب أخرى، إذ يعتقدون أن سوء استخدام الأرض ومصادرها الطبيعية يقبع وراء الانهيار الاقتصادي والسياسي للحضارات الأولى.

في السياق نفسه، حول مظاهر التراجع الذي يطال واقعنا العربي، وأمتنا الإسلامية، أصدر هذا العام مركز دراسات الوحدة العربية، في بيروت، ما أطلق عليه «المشروع النهضوي العربي» وهو دليل شارح لما قام به المركز حول ذلك المشروع، منذ بدأ كفكرة في التبلور العام 1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي.

وبعد مشاركات ومساهمات من أجيال المفكرين والباحثين العرب عقد المركز في مدينة فاس عام 2001، ندوة شارك فيها ما يزيد على المائة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثها ومناقشاتها القضايا النهضوية الست التي تشكل أهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري. ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه. وقد رأى ذلك المشروع أن ما اصابته الحضارة العربية – الإسلامية من ظهور وتألق وتفوق في العصر الوسيط كان بفعل الديناميات العميقة التي حركت فيها إرادة البناء والتقدم والخروج إلى العالمية. فقد كانت دعوة الإسلام واحدة من تلك الديناميات التي حوّلت نشر عقيدة التوحيد إلى رسالة حملها العرب الفاتحون إلى الآفاق.

كما أصبح تشبُّع العرب الفاتحين بثقافات الشعوب – التي فتحت أراضيها، عنوة أو صلحا، واحتكوا بها احتكاكا – واحدًا من الأسباب التي تغذت منها حضارة العرب والمسلمين وأطلقت فيها دينامية البناء والتقدم.

ثم كان التراكم الثقافي والعلميّ الهائل، وحركة التدوين والترجمة، وتطوّر الصنائع والحرف، وتوسع نطاق التجارة بعيدة المدى مع العالم الخارجي، كلها عوامل أعادت إنتاج حركة التطور الحضاري. وإذا كان ثمة ما ميّز الحضارة العربية – الإسلامية في عصورها المتتالية، وسمح لها بالبقاء فترة طويلة من الزمن، فهو قدرتها على التجدد الذاتي بتلك العوامل نفسها، وخاصة منها انفتاحها على غيرها من الحضارات، والأخذ منها دونما شعور بالنقص، أو الدونية.

ولعلنا نشارك ما انطلق إليه «المشروع النهضوي العربي» في توصيفه لما يعانيه الوطن العربي اليوم من تأخر فادح في البنى السياسية والثقافية والاجتماعية نتيجة تراكمات حالة الانحطاط المزمنة فيه والمتحدرة منذ قرون.

تشخيص الداء وسيلة للدواء

كما أصبحت سيادة الجمود الفكري والتكلس العقلي وتراجع العقل الاجتهادي، وسيطرة الثقافة النصية، والأفكار التي تدعو إلى الانكفاء إلى الأصول مفهومة بوصفها حقائق مطلقة وتقديس التراث، وهيمنة الخرافة والنزعات التواكلية، ورفض الآخر، والانكماش الذاتي والتشرنق على الهوية مفهومة بوصفها ماهية مطلقة لا تغتني ولا تتطور، وعودة هيمنة القيم القبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية على حساب القيم الوطنية والمعنى العصريّ للأمة، واحتقار العمل، والميل إلى الدعة والكسل، والعلاقة المائعة بالزمن وبالنظام، وعدم التشبع بروح المسئولية، أصبحت كلها ظواهر تعري مقدار ما أصاب العمران الثقافي والاجتماعي العربي من خراب هائل، وهي جميعها تستحث إرادة النهضة، لدى كل النهضويين اليوم.

وربما حين نضع يدنا على أصل الداء يتيسر وصف الدواء، فالتحالف الخطأ هو الذي كتب على جبين الأمة تأخرها، إذ لم تفِ بريطانيا بوعودها للثورة العربية، بأن التحالف معها سيجلب الحرية والنهضة، والحقيقة أن هذا التحالف والثقة به قد جلب الاحتلال الغربى لقطع الدومينو العربية، فتساقطت في مشهد حزين، في حين كان ذلك الوعد نفسه للكيان الصهيوني حقيقيا فقامت دولة الاحتلال الإسرائيلي مجسِّدة قمة ما وصل إليه حال العرب من انحدار وماكانت عليه خسة وغدر الحليف الغربى. فكان داء التحالف سرطانا عمق  تأخر الشعوب العربية وجعلها تخلد للنوم، حتى تقوم تلك الشوكة الاستيطانية في الجسد العربي، منذ ستة عقود ونيف.

كما يمكن لداء آخر أن يوصِّف مشهد الانهيار، ما بعد الاحتلال، والتي أخمدت النهضة ووأدتها في مهدها، لتنمو بدلا منها بذور كراهية، لا للآخر الغربي، ولكن للمختلف حتى داخل الوطن الواحد، فظهرت التكتلات الطائفية والمذهبية والعشائرية لتتصارع ولتأكل من كيان التوحيد العربي، الأساس للمشروع النهضوي.

كما انتهت حركات الإصلاحيين قبل مائة عام إلى العدم، ولم يتبق في المشهد سوى صور ذلك الانهيار ومظاهره، فحوكم كل فكر يشذ عن القاعدة، وصودر كل رأي يحاول الاجتهاد، وقمعت حريات كانت كفيلة بشق سقف الظلامية بحثا عن نور جديد. وهي المظاهر التي بدأت تستشري اليوم أكثر من أي وقت مضى امتدادا لمزرعة المستعمر في أرضنا العربية والإسلامية.

وكانت تلك حال المشروعات القومية التي ضلت الطريق، كرهًا أو طواعية، حين تحالفت ضدها القوى الخارجية، وناهضتها الأفكار الرجعية الداخلية التى استنهضتها ومولتها قوى الاستعمار الغربي لتعيق النهوض والتطور، فنشأت حالة من النزاع داخل المجتمع العربي، وفي أوساط نخبه، بين ثنائيات كثيرة، كالعروبة والإسلام، الأنا والآخر، الشرق والغرب، المشارقة والمغاربة، الفصحى والعاميات، الدين والدولة، الستار الحديدي وسياسة الانفتاح، معسكر اشتراكي وقطب رأسمالي، التراث والمعاصرة، وهي ثنائيات ألهتنا عن التفكير في فائدة أي منها، إلى البحث في كيفية الانتصار للفكرة والشخص والرأي دون إدراك للمعنى.

أمة جديدة

إن البحث عن أمة جديدة ناهضة، وفاعلة في محيطها الإقليمي والدولي، يجب أن يؤمِّن حماية ما في تلك الأمة من تنوع ثقافي مصدره روافد ثقافية شعبية متنوعة في المجتمع العربي، واعتبار هذا التنوع عامل إخصاب وإغناء للثقافة العربية ينبغي استثماره، لا عامل انقسام وتهديد للوحدة الثقافية، وذلك دون إخلال بضرورة العمل على تعظيم القواسم الثقافية العربية المشتركة.

لقد كانت لنا تجربة في النهضة، وكانت للآخرين تجاربهم، ونحن نعول اليوم أكثر من أي وقت مضى على الأخذ بأسباب النهضات العربية والغربية، حتى نحظى بما أسماه «المشروع النهضوي العربي» بالتجدد الحضاري.

ولا مناص من الوعي جيدا في البداية لتلك التشوهات التى أصابت المجتمع العربي، وتشخيصها والبحث في معالجتها، كالحداثة الرثة «الثقافية والاجتماعية» نتيجة اصطدامه بالغرب وما أحدثه ذلك من ظواهر شوهاء في بنيته، كنزعة التقليد للقشور الثقافية للغرب، وتقديس الوافد الأجنبي، واحتقار الموروث والتغريب والدعوة إلى التحديث القسري وجلد الذات والهوية والهجوم على الدين والمشاعر الدينية للمؤمنين، والعدمية في النظر إلى الثقافة العربية وتسول أجوبة ثقافية غربية على معضلات مجتمعاتنا دون وعي بالفارق في البنى والتاريخ ومستوى التطور. وأبرز تلك التشوهات هيمنة القيم الاستهلاكية، والتماهي في التشبه بالمجتمعات الغربية، «وتفشي النزعات المادية الغرائزية، والتحلل المتزايد لمنظومة القيم العربية».

فالوعي بهذه التشوهات واستدراكها جزء من الوعي الضروري توافره ونحن نبحث عن نسق القيم النهضوي الجدير بأن نكرس له بحثنا، وأن نترجم معنى التجدد الحضاري، إلى ذلك النسق الذي يعبّر عن التوازن المطلوب بين المواريث والمكتسبات، بين الخصوصية والكونية، بين التمسك بالشخصية العربية والانفتاح على العالم. فبذلك وحده يعبر نسق القيم النهضوي عن الشخصية العربية – الإسلامية، مستفيدًا من القيم الكبيرة المستمدة من التراكم الاجتماعي والثقافي والديني، (قيم التمسك بالعائلة، وأخلاق المروءة، والصدق، والإيثار على النفس، والتراحم، والتوادد، والتضامن، والإنصاف والعدل…)، ومنفتحاً على العصر، منتهلاً منه أرقى ما في قيمه ومتمسكا بها، مستدمجاً إياها في منظومته (ومنها قيم الحرية، والتسامح، والاختلاف، والمسئولية، والاستقلال الذاتي للشخصية، والإنتاج).

والباحثُ الحق عن تلك القيم التي يدعو إليها «المشروع النهضوي العربي» لا يذهب بعيدًا حين يكتشف في تراثنا العربي والإسلامي ما يرتبط بها. فكم من قصة عربية تراثية تعلي أخلاق المروءة والصدق، وكم من بيت شعر يدعو إلى العدل والإنصاف، وكم من مثل شعبي ينادي بقيم التمسك بالعائلة، كم من حديث نبوي يدعو إلى التراحم والتوادد وشد الأزر، وهي نفسها القيم التي نادت بها الأديان السماوية وصدقتها كتب المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين.

نقد السلطة

والواقع أن قاسمًا مشتركا يوحِّد المختلفين حول قضايا النهضة، هو موقف الطرفين من مرجعياتهما. فما يحكم الوعي العربي ويسيطر عليه منذ قرنين هو الانصياع لسلطتين متناقضتين تؤثران عليه سلبًا بما يشل قدرته على التفكير الداعي للتجديد أو التأصيل، وهما سلطتا التراث والغرب. فليس لدى هاتين السلطتين عصا سحرية لكل المشكلات، تستدعي العصا التراثية أو الغربية فيخرج لك الجني ليحول المثالب إلى مناقب، ويحيل الليل إلى نهار، وينهض بما تحت التراب.

ليس في «التراث» تلك الحقيقة المطلقة التي تعلو فوق المنطق والعقل والتفكير أساسا، وليس لدى «الغرب» تلك النجاعة التي تجعله مخالفا لقاعدة «طعام زيدٍ سم لعمرو». لدى السلطتين أفكارهما التي يجب أن تؤخذ على محمل الجد، وفي إطار التفكير المتجدد، الذي يريد أن يبني حضارة متجددة.

لقد اكتشفنا قبل مائتي عام، منذ غزا بونابرت الشرق، أننا ننأى بتأخر مزدوج، تأخر عن المدنية الحديثة، وتأخر كذلك لا يقل وضوحًا عن الحضارة العربية الإسلامية وما بلغته في في أزهى عصورها.

كان طريق الخروج من أسر التأخر كما رسمه النهضويون الأوائل يحاول أن يستلهم النموذج الأوربي، أو يهتدي بالنموذج النهضوي للعصر الوسيط، أو يحاول التوفيق بين قيم الحداثة والأصالة، ومازلنا نراوح مكاننا، ولذلك علينا أن نأخذ قرارنا اليوم، قبل الغد، في استلهام طريق فريد لنا، وضعنا له قواسمه المشتركة في السطور السابقة. ويساند التجدد الحضاري المنشود نهضة ثقافية تضع أولويات حددناها في أحاديث سابقة، ومنها أولوية التفكير النقدي العلمي، والثقافة العلمية، وإعادة بناء صلتنا بالتراث على نحو صحي ومتوازن، وأقول إن الترجمة التي احتلت مكانة مهمة في النهضة السابقة، لا بد أن يكون لها دورها الحالي الداعم للتجدد الحضاري. إن هذه رسالة للجميع مفكرين ومؤرخين مثقفين لأن الأمر يهم الجميع. التجدد الحضاري كان سمة في ماضينا المزدهر، وباستطاعتنا أن نجعله سمة مثيلة لمستقبلنا المنشود.

وفى البحث عن طريق للنهوض لابد من توافر شرط الحرية وضماناتها في البحث والنظر في أمور الدنيا كافة، ولابد من رفع القيود التى تعرقل البحث فى الفكر، وما تراكم عبر القرون من بدع وضلال وخرافة، فالحجر على الفكر والاجتهاد والابداع هو حجر على النهضة وعرقلة لمجتمعاتنا من الخروج من عصور التخلف والانحطاط.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*