المُصلحون الجدد

          رياحُ العام المنصرم 2010 التي أرجحت شموع حياة عدد من مصابيح التنوير والإبداع العربيين، حتى أطفأتها، كان موسمُها قاسيًا. اتشحت الصفحات بالرثاء حينًا، وتثمين المناقب أحيانًا، وتلك عادة ألفناها مع الراحلين، خاصة هؤلاء الذين حملوا على عاتقهم رسالة تتعدى ذواتهم، لتصبح نبراسًا لشعوبهم وأمتهم وقدوة للأجيال الآتية من بعدهم. لكن سؤالا مُلحًّا لا بد أن يشغلنا: متى علينا أن نخلع ثوب الحداد، فنسرع لنحمل أمانة المشاعل التي أضاءها الراحلون، حتى لا تنطفئ؟

  • المشاريع النهضوية، التي سعت إلى الاستقلال والتحرر والنمو والبناء، استبدل بها – بعد تحرير الأرض، واستعادة الاستقلال السياسي، وقيام الحكومات العربيةمشاريع وطنية، نجحت في مساعٍ وخاب مسعاها في أخرى
  • سعى الجابري إلى تحليل الخطاب العربي المعاصر ليستفتيه ويحلله ويقدم مشروعه الفكري لنقد ذلك الخطاب، من أجل فلسفة عربية معاصرة واستقلال تاريخي لذواتنا العربية
  • لم يكتف الراحل الكبير أحمد السقاف بالشعر تعبيرًا عن انفعاله بهموم بلاده، وإنما سلك في مسيرته العملية نهجًا أجدر بأن يُتبع بما فيه من دلالات قوية ستظل ضوءا في نهاية نفق التبعية
  • إن استمرار الأمل يعني أن نحمل المشاعل التي تركها هؤلاء، عالية حتى لا تخمد

 

بات الحديثُ عن التطوير، والتفكُّر في الإحياء، والعمل على التحديث من أساسيات تناول مشاريع النهضة المبكرة التي حاول مفكرونا العرب في بواكير القرن العشرين ترسيخها في بلداننا العربية، سواء عبر مسالك فردية، أو تحت مظلات جماعية. لكن هذه المشاريع النهضوية، التي سعت إلى الاستقلال والتحرر والنمو والبناء، استبدل بها – بعد تحرير الأرض، واستعادة الاستقلال السياسي، وقيام الحكومات العربية – مشاريع وطنية، نجحت في مساع وخاب مسعاها في أخرى. وبدا أننا نسينا – في غمرة المشاريع القومية – ما سعينا لأجله، فأصبحنا اليوم نعيش مرحلة أشبه بالأمس، تحتاج إلى فكر شجاع يجدد مشاريع النهضة، بعد أن فاتتنا قطارات الأمم المتقدمة، واحدًا تلو الآخر. فكر يدفعنا لنلحق بقطار اللحظة الأخيرة، حتى لا ينقرض العرب، فيندثر تراثهم، وتضمر حضارتهم.

ومن عجب أن يشهد العام الذي نودعه هذا الشهر رحيل نخبة من هؤلاء المصلحين الجدد، الذين كرسوا حياتهم لفكرة النهضة، علمية وفكرية وتربوية وثقافية وأدبية ودينية، فكان علينا أن نودِّعهم ونحن نكفكف الدمع لنستطيع قراءة رسائلهم التي دونوها بأحبار أعمارهم.

استفهام الماضي

لم يكن الدكتور محمد عابد الجابري، الذي دَرَسَ الفلسفة في جامعة دمشق وبدأ حياته العملية أستاذا لها في جامعة محمد الخامس في عاصمة بلاده الرباط، مجرد مدرس لعلم قديم. إذ لم تعد الفلسفة بعد ارتباطها بالعلم قديمة، كما لم يكن هو حين اختار الشرق مجاله للتعلم والتعليم مجرد ناقل لذلك العلم. لقد سعى الجابري في مشاريعه التي واكبت مسيرته العلمية والعملية في استفهام الماضي، وسؤاله بجدية بالغة، من أجل بناء واع للحاضر، وفهم جدير بالمستقبل. وقد وضع يده على مكامن التخلف في التعليم، وهو ما ينطبق جله على التعليم في بلادنا العربية، حتى وإن اختار المغرب نموذجًا.

من هنا أكد الجابري على ضرورة التعريب في مواجهة الفرنسة، وتوحيد التعليم في مواجهة المدارس الخاصة للطبقات القادرة، وتعميمه في مجابهة الأمية التي تأكل الأخضر واليابس. وإذا كان الجابري قد حاول إيجاد الدواء لداء التخلف التعليمي، فقد سعى أيضا إلى تحليل الخطاب العربي المعاصر ليستفتيه ويحلله ويقدم مشروعه الفكري لنقد ذلك الخطاب، من أجل فلسفة عربية معاصرة واستقلال تاريخي لذواتنا العربية بخطابها المعادل الموضوعي لفكرها ووجودها.

وقد عدَّ الجابري تراثنا الإسلامي تراثا حيا، فمنذ ثلاثة عقود، وفي كتابه «نحن والتراث» يقوم بتحليل ذلك الإرث الفلسفي كمقدمة لمشروعه الأكبر «نقد العقل العربي»، محاولا الإجابة عن مدى الاستفادة من استفهام التراث كتجربة حية، حين يخرج من أوراق الفارابي وسطور ابن سينا ومقولات ابن رشد ومقدمة ابن خلدون ليعيش بيننا، ولتظهر العقلانية أداة ومنهجًا وفكرًا في التعامل مع ذلك الإرث، بدلا من وأده في أضابير مختومة وحفظه في أوراق بالية وإعادة نشره في نسخ محدودة فقط لكي نقول إننا نحافظ على تراثنا، أو بحثه في حقول الشهادات الجامعية التي لا يتداولها ويتناقلها سوى المتخصصين.

والأبرز في مشروع الجابري هو دعوته الإصلاحية، خاصة بعد أن كتب عن نقد الحاجة إلى الإصلاح، إذ انتقص نمذجة القوالب الإصلاحية في الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، فلم يكن يؤمن بأن الإصلاح مجرد إحياء لما جاء به السلف أو تبنٍّ لآراء الغرب المختلف، بل أصر على التعامل بجدية مع استفهام الماضي، تراثا وإصلاحا وفكرا وفلسفة، لبناء الحاضر وفهم المستقبل. وإذا كانت ثقافتنا الإسلامية تقوم على الواجبات، فإن الثقافة الغربية قائمة على الحقوق، لذلك فإن الجدل يجب أن يفهم الجذور ليبني الأصول.

ولعل مشروع الجابري الأخير لفهم القرآن الكريم فهمًا معاصرًا هو زبدة أفكاره، في خطاب جديد يحاور العلوم النقلية التي أسسها القدماء لكي تصبح أيقونات تستمد قداسة من النص القرآني، وهكذا يعيد قراءة علوم القرآن والحديث والسيرة والتفسير والفقه لكي يقول لنا رسالته الأخيرة بإعمال العقل دائمًا لكي نستكمل ما بدأه النهضويون الأوائل.

استفتاء العقل

بعد أن اختار دراسة «السياسي» عند أبي الحسن الماوردي مشروعًا لنيل درجة الدكتوراه اتفق المفكر الكويتي الراحل الدكتور أحمد البغدادي مع ما جاء به الماوردي على أن العقل أس الفضائل، وينبوع الآداب، وأساس كل علم ومعرفة، لأن الله سبحانه وتعالى جعل من العقل للدين أصلا، وللدنيا عمادًا، ولم يكن التكليف واجبًا إلا باكتماله وكماله، لأن الشرع لا يرد بما يمنع منه العقل، والعقل لا يتبع فيما يمنع الشرع. ولعلي أستذكر مشروع البغدادي لأنه أجدر براهننا العربي الذي أصابه وهن كثيرٌ، فصاحبه ـ- الماوردي – عاصر مثله فترة ضعف الحكم في الخلافة العباسية، ومن هنا جاء اهتمام الماوردي بإحياء العقل من أجل النهضة، مثلما هو اهتمامنا بإحياء فكر البغدادي العقلاني المستنير من بعد رحيله. وهو جدير بنا ونحن أولى به، لأنه كذلك اهتم بدور المثقف العربي في مجتمعه، وألا ينحسر هذا الدور أو ينحصر بالتمذهب السياسي أو الولاء الحزبي، أو الانتماء التياري، فاستقلالية المثقف هي التي تمنحه القوة للنقد، وإعمال العقل للسلطة والشعب معًا.

ولم يكن البغدادي ذلك المفكر الساكن في برجه العاجي، بل رأيناه يدعو إلى الحوار، كما أسس مع ثلة من رفاقه في الكويت مركز الحوار الذي تبنى الليبرالية دربا للتغيير. على أن حضور البغدادي الإعلامي عبر الدراسات الفكرية، والمقالات الصحفية والمناظرات التليفزيونية والندوات هو ما جعله يخوض معارك مع من اختلفوا معه، وخاصة بين المتشددين الذين أثارتهم دعوته لشجاعة إعمال العقل واستفتائه من أجل قيم التنوير ومشاريع النهضة وثقافة العقلانية.

استنهاض الوعي

الوعي كائن أسطوري يحتاج إلى من يحركه إذا سكن تحت رماد التخلف مثلما يحتاج إلى من يبعثه إذا اختفى في ظلام الجهل. في كل عصر ننتظر من يقوم بهذا الدور فيرسل الوعي عاليا ليحلق بجناحيه. وقليلون في مسيرة نهضتنا العربية من امتلكوا تلك العصا السحرية التي تملك تلك القدرة على استثارة الوعي، وكان في طليعتهم بالكويت الشاعر العروبي أحمد السقاف، وهي صفة لا نطلقها جزافا، بل نجده الأجدر بها وهو الذي وهب نصف ديوانه لأمته العربية، وقضاياها القومية، وفي طليعتها قضية فلسطين.

لم يكتف الراحل الكبير أحمد السقاف بالشعر تعبيرًا عن انفعاله بهموم بلاده، وانشغاله باستنفار همم أبناء وطنه، وإنما سلك في مسيرته العملية نهجًا أجدر بأن يتبع بما فيه من دلالات قوية ستظل ضوءا في نهاية نفق التبعية. فهو تارة يستحث جيل الشباب الذي آمن بقدرته على التغيير، وتارة يتذكر بإجلال رموز الثورة العربية التي آمن باستطاعتها على إشاعة النهضة.

وتذكُرُهُ الثقافة العربية المعاصرة برحلته الأشهر لإنشاء مجلة «العربي» بعد أن عُيِّن مديرًا لدائرة الإرشاد والأنباء في 1957. كانت رحلة السقاف البارزة تلك تجمع بعصاه السحرية مقومات صفحة مشرقة في تاريخ الكويت الثقافي، فاختار السقاف بعد أسفاره للعواصم العربية الأشهر، الدكتور أحمد زكي رئيسا لتحرير «العربي»، مثلما انتقى طاقمها الذي ساهم في ولادة مشروع لايزال يتجدد بدماء الوعي المبكر الذي وضع لبناته السقاف، حتى بعد 52 عامًا من صدور عددها الأول في مثل هذا الشهر من العام 1958.

استجلاء الدين

منذ بدأت الدراسات الغربية للتراث الإسلامي (الاستشراق) لغة، ودينا ونصوصا وأعلاما وفكرًا، والمؤرخون والمفكرون والفلاسفة في الجامعات الأوربية والأمريكية لا يستمعون إلا لصوتهم، ولا يؤمنون إلا بنهجهم، ولا يقرأون إلا بلسانهم. من هنا جاءت رسالة المفكر الجزائري الراحل محمد أركون لتبدأ عهدًا جديدًا من الدراسات الألسنية للقرآن الكريم في أعرق جامعة فرنسية؛ السوربون، التي نال منها درجة الدكتوراه في الفلسفة، وانخرط في سلكها الجامعي أستاذا لمادته منذ ثلاثة عقود.

في ذلك التاريخ البعيد بدأ يكتب بشراهة الباحث عن الماء في سراب صحراء مقفرة، لكنه كان باحثا له ولع بالحقيقة وإيمان بالحوار، ولم يكن يُعنى بحساسية موضوعاته قدر اعتنائه بضرورة توحيد الوعي الإسلامي المتشظي، ولعل ذلك ما كان يدفعه لإعادة كتابة موضوعاته، وكأنه يجدد دماءها من أجل حقيقة أكبر، هي استجلاء الدين، ليس فقط لطلابه في الغرب، ولكن لحوارييه ومعارضيه في الشرق العربي.

ومثلما دعا محمد أركون إلى تبني التعددية وقبولها، احترامًا للآخر وفكره ودينه وتراثه وثقافته، كان يدعو في الوقت نفسه إلى عهد جديد للأنوار يماثل ما واكب نهضة أوربا بعد ظلامها الفكري، الذي واكبته وكانت علامة عليه الحروب الصليبية المتطرفة دينيا.

لقد عانى محمد أركون خلال أربعين عامًا من البحث الدءوب مما يعانيه الجادون في طريق غير ممهد، لأنهم يحفرون – للمرة الأولى – جديدًا يحتاج إلى فهم قد يكون أكبر من عصره. وكان النقد الشديد الذي يواجَه به في عالمنا العربي لا ينشأ من فهم له، بل ينبت من معاداة إعمال التفكير الذي دعا إليه أركون، لاستعادة روح التنوير، ليس فقط كنقد للعقل المنشغل بالأفكار الدينية، ولكن دعوة لإشعال جذوة العقل الناقد للحداثة والمنشغل بها.

استقراء المستقبل

لم يكن دور الفلسفة استحضار آراء سلفت وحسب، وإنما كان وسيظل دورها استقراء المستقبل، وهو ما اتضح في أعمال راحل آخر هو الفيلسوف العربي الكبير فؤاد زكريا.

لقد نادى الدكتور فؤاد زكريا بضرورة إحياء التفكير العلمي وعدَّه موضوع الساعة في العالم العربي، منذ ثلاثين سنة، ونحن اليوم حين نتأمل تراثنا فيما يخص فضاءنا العلمي نشعر بأسى كبير لأننا وقفنا نتفرج على الآخرين وهم يثبون، ونحن مقيدو الخطى في خرافات بالية، وأفكار منهزمة. لقد استقرأ فؤاد زكريا بما كنا سنصل إليه اليوم من ردَّةٍ وتردٍّ، وهو قدم لنا في اجتهاداته طرائق للتفكير جناحاها العقل والحرية.

استمرار الأمل

والحديث يطول عن هؤلاء الأعلام الذين ودعناهم، ومعهم كثيرون ساهموا بالمثل في محاولات النهضة. فنحن لا ننسى محاولات الدكتور نصر حامد أبو زيد في استنطاق التراث الذي كلفه الكثير، ولكنه استفاد من محنته ليصبح صوتا عربيا إسلاميا جهوريا في منفاه الهولندي. كما لا ننسى العم الطاهر وطار، نصير اللغة العربية، التي لم تشكل اللغة وجدانه العروبي وحسب، بل ألبست شخصياته الروائية في أعماله الشهيرة روحًا محلية خالصة، وذاتاً عروبية قوية، أثرت خيالنا الأدبي على مدى عقود. وعلينا بالمثل أن نتذكر الدكتور غازي القصيبي الذي وضع ثقافته في خدمة أمته، ودافع عن حرية أفكاره، فكان نموذجًا مضيئًا لأبناء الجزيرة العربية في العصر الحديث، كمبدع عربي قومي.

إن استمرار الأمل يعني أن نحمل المشاعل التي تركها هؤلاء، عالية حتى لا تخمد. لا نريد لمشروع محمد عابد الجابري في استفهام الماضي  أن يتعثر، ولا نتمنى لاستفتاء العقل الذي شغل أحمد البغدادي أن ننشغل عنه، ولا يصلح أن يتوقف استنهاض الوعي العربي مع رحيل الشاعر أحمد السقاف، ويجب ألا يتوقف استجلاء الدين بغياب محمد أركون، أو يتعطل استقراء المستقبل بمضي فؤاد زكريا. لتكن رسالة استنطاق التراث لنصر حامد أبو زيد حية. لتكن دعوة الطاهر وطار للحفاظ على لغة هويتنا قائمة. ولتشعل ثقافتنا المَدِينة لإنجازات غازي القصيي مشعلاً وراء آخر ليستمر الركب.

هي دعوة للحواريين الذين نهلوا من عيون ما قدمه الراحلون، مثلما هي دعوة لمن حاججوهم، لكي يظل الأمل قائمًا في إعمال العقل والعقلانية، لخدمة الفكر والإنسانية، ونقض الجهل والتجهيل في ثقافتنا العربية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*