العرب.. هل يتجهون شرقًا؟

من الأمور التي تلفت الانتباه اليوم ما نشعر به ونلمسه من ظواهر تعكس عدم فهم الغرب بشكل دقيق لواقع حياتنا كعرب وكمسلمين، عبر شواهد عديدة تناولتها الأدبيات التي أشاعت مصطلحات من قبَل «صراع الحضارات» و«صِدام الحضارات» على مدى عدة عقود، وهو ما نراه، جليًا كذلك، في علاقة الغرب بآسيا، مجسَّدًا في الوقائع الحربية والصراع الممتد في أفغانستان مثلاً، أو في توتر علاقاتها بباكستان، أو غيرها من دول آسيا.

  • لعب انتشار الدين الإسلامي في آسيا دورًا كبيرًا في زيادة التأثير المتبادل بين المنطقتين أدى إلى انتشار الثقافة العربية
  • إن التجربة الآسيوية تضم العديد من تجارب التنمية المهمة واللافتة، أعادوا بها بناء مجتمعاتهم ونظم التعليم الأساسي والجامعي لديهم، ما يجعل منها تجارب جديرة بالتأمل والبحث
  • إن جانبًا كبيرًا من أهمية دعم العلاقات العربية الآسيوية يقوم على أسس المقارنة والدرس والبحث الموضوعي لتلك التجارب ودراستها بجدية ومحاولة الاستفادة منها في تجارب التنمية المحلية في كل المجتمعات العربية

واللافت للانتباه أيضًا أن الغرب كان هو المستعمر لعالمنا العربي لسنوات طويلة، كما فعل الأمر نفسه في دول آسيا. ومع كل تلك السنوات الطويلة من الاستعمار وما استتبعه من استنزاف لثروات الدول المستعمرة، لم تحدث فيه على ما يبدو، أي محاولة لفهم علمي لطبيعة الشعوب التي استعمرها وثقافاتها بشكل حقيقي، لا في منطقتنا العربية، ولا في منطقة آسيا على امتداد جغرافيتها.

وقد تسبب هذا الاستعمار، في الوقت نفسه، في قطيعة بين العالمين العربي والآسيوي، تبدو للبعض اليوم كأنها فجوة تاريخية، لكن الواقع التاريخي، وكل متابعيه يعرفون أن أواصر العلاقات العربية – الآسيوية التاريخية قامت على مدى عقود على عوامل عدة، كوّنت لنشأة الأواصر العريقة بين البلدان العربية في المشرق والمغرب، وبلدان الشرق الأقصى، ووسط آسيا، واستمرت نتيجة عوامل تاريخية وثقافية وتجارية وحضارية ودينية، دعمت تلك الأواصر بين أطراف الشرق الأقصى والأوسط والأدنى.

وبسبب الاستعمار الغربي عانى الطرفان طويلاً، وتأثرت سياسات واقتصادات، فتغيرت وتبدلت لغات وأبجديات، وتحولت ممالك، وسادت حضارات وبادت أخر، لكن بين كل تلك المتغيرات تجلّت حقيقة أن العلاقات والمصالح بين الشعوب أقوى من أن تنمحي، وظلت الأواصر بين الدول أمتن من أن تنهار، ولذلك استبدل بطريق الحرير التاريخي طرق أخرى بريّة وبحرية وجوية، وباتت الرغبة في التواصل مجددًا مشروعًا لا تخمد جذوته بين الجانبين. وهو ما تشهد عليه نشأة العديد من المؤسسات التي تعنى بدراسة الآخر الشرقي والعربي، وصدور مجلات وكتب ودوريات تتناول الثقافات المشتركة بين الطرفين، أو تلك التي تقدّم الثقافات الوطنية بلغات الآخر، إضافة لمؤسسات تعليم اللغات بين الجانبين على تنوعها، أو إقامة مؤسسات تعليم اللغة العربية لدى العديد من عناصر ثقافات آسيا، فضلا عن التواصل الديني بين المجتمعات المسلمة.

إن مظاهر التواصل هذه ليست من فراغ، بل تعبر عن البعد التاريخي لتلك العلاقات التي جسدتها إمبراطوريتان تاريخيتان كبيرتان متزامنتان هما الإمبراطورية الإسلامية في بغداد، وإمبراطورية الصين التي عُرفت باسم إمبراطورية تانج في آسيا (حكمت أسرة تانج خلال الفترة من 618- 907م).

انتشار الإسلام

كما لعب انتشار الدين الإسلامي في آسيا في تلك المرحلة التاريخية دورًا كبيرًا في زيادة مساحة التأثير المتبادل بين المنطقتين، إذ أدى ذلك إلى انتشار الثقافة العربية، التي عرفت بنهضتها الفكرية والعلمية آنذاك، وتحولت شعوب كثيرة إلى تعلم لغة الدين الجديد، وهو ما أسفر عن ظهور علماء في التخصصات كافة، ممن تأثروا بالثقافة العربية، مثلوا رموز الحضارة الإسلامية.

وتكاملت أواصر العلاقات بين الجانبين عبر الدور الاقتصادي الذي مثلت التجارة بين الجانبين فيه العامل الأكبر، وما استتبع ذلك من زيادة التأثير بين الثقافتين.

وقد أدت تلك العلاقات وامتداد سلطات ونفوذ الدولة الإسلامية إلى الكثير من الانتقالات بين مواطني الثقافتين، وهجرة بعض منهم إلى الطرف الآخر، ما أسفر عن الكثير من مظاهر الاختلاط والتجاذب الثقافي. ومن مظاهر الاختلاط تلك استقرار هجرات واسعة لتجار اليمن الأوائل في القرن التاسع الميلادي في بعض الجزر الآسيوية، وبينها إندونيسيا، ما أسفر عن استقرار للحضارمة في تلك البلاد الآسيوية، الذين لعبوا دورًا كبيرًا في انتشار الإسلام وفي تجارة تلك البلاد.

ومن مظاهر الانتقال العربي لآسيا أيضا انتشار اللغة العربية في آسيا الوسطى، وهي مجموعة من تنويعات اللغة العربية المحكية في أوزبكستان وطاجيكستان التي تواجه الانقراض حاليا. فقد كانت هذه اللهجات محكية بين مجتمعات عربية كثيرة من البدو والحضر الذين سكنوا مناطق سمرقند وبخارى وقشقدرية وسرخندرية (في أوزبكستان المعاصرة) وختلون (في طاجيكستان المعاصرة) وكذلك في أفغانستان.

وقد تسبب في تأثير اللغة العربية في المنطقة وصول الموجة الأولى من المهاجرين العرب إلى تلك المناطق في القرن الثامن الميلادي مع الفتوحات الإسلامية، ولحقت بهم مجموعات من عرب بلخ وأندخوي (في أفغانستان المعاصرة)، وبسبب تأثير الإسلام أصبحت العربية لغة العلوم والآداب في تلك الحقبة، وقد عاش معظم عرب آسيا الوسطى في مجتمعات خاصة بهم، ولم يؤثروا الزيجات المختلطة (لكنها وجدت) مع الجماعات المحلية، وقد ساعد هذا اللغة على البقاء في مجتمعات متعددة اللغات حتى القرن العشرين.

القطيعة والتبعية للغرب

لكن مع اضمحلال الدولة الإسلامية، وضعف إمبراطوريات آسيا الكبرى في الصين والهند، كان الغرب بالمرصاد، حيث انتهز هذا الضعف والتضعضع لمصلحته، فدخلت جيوشه إلى تلك الدول وسيطر على ثرواتها وحكوماتها، وبالتدريج ارتبطت المنطقة، في آسيا، وفي البلاد العربية، بالمصالح الغربية والأمريكية، وهو ما أسفر عن تبعية المنطقة العربية للغرب.

واليوم، بعد انحسار السيطرة الغربية، نشهد نهضة كبيرة في دول المنطقتين، وبعضها نهضات كبيرة وطموحة كما هو شأن كوريا الجنوبية مثلا، واليابان والصين والهند، إضافة إلى العديد من دول شرق آسيا، ويواكب ذلك طموح عربي لنهضة شاملة في العديد من دول المنطقة العربية، وهو ما يجعل إعادة بناء الجسور بين الثقافتين على درجة كبيرة من الأهمية في المجالات الثقافية والاقتصادية في مرحلة مهمة من مراحل التطور البشري التي تشهد ظاهرتين عالميتين هما: العولمة، بكل ما تعنيه من مظاهر التأثير المتبادل بين الحضارات المختلفة مرعية بثورة تقنية متسارعة في مجال الاتصال الكوكبي، وأما الظاهرة الثانية فهي سعي العديد من القوى الإقليمية للتكتلات الاقتصادية والسياسية.

والحقيقة أن التجربة الآسيوية تضم العديد من تجارب التنمية المهمة واللافتة، أعادوا بها بناء مجتمعاتهم ونظم التعليم الأساسي والجامعي لديهم، ما يجعل منها تجارب جديرة بالتأمل والبحث، ويعلي من قيمة وأهمية التعاون التنموي بين المنطقتين، الذي سيكون بمنزلة استعادة لعلاقات تاريخية مشتركة، لكن على أرضية الحداثة التي ظهرت آثارها على مدى العقدين الماضيين بجلاء، وأرضية المستجدات التقنية والاستثمارية والثقافية لدى كلا الجانبين، إضافة إلى التاريخ المعاصر من العلاقات التجارية المشتركة بين الطرفين.

منفعة متبادلة

إن استعادة هذه العلاقات والأواصر المشتركة ذات البعد التاريخي تقتضي وجوب إسراع العرب في إعادة التعرف على آسيا؛ ثقافيًا وعلميًا واجتماعيًا وسياسيًا، لدعم هذه العلاقات، لأننا، ووفقا للعديد من المتغيرات نحتاج إلى دعم هذه العلاقات لارتباط مصالحنا بهذا النمو العلمي والاقتصادي والتجاري، ما يجعل من تبادل المنفعة بيننا أساسًا لهذه العلاقة المشتركة.

فالعديد من دول المنطقة العربية تمتلك من الثروات ما يمكن به أن يمثل استثمارًا جيدًا في تلك الدول الآسيوية مما سيعد ادخارًا محسوبًا وجيدًا من الجانب العربي، وسيعود في الوقت نفسه على تلك الدول بالمزايا الاقتصادية، وفي المقابل بإمكان العرب الحصول على المزيد من المعرفة بالتقنيات العلمية والبحثية، والاستفادة من خبرات تلك الدول في مجالات عدة، أحرزت فيها تقدمًا لافتًا.

وما يعزز نجاح مثل هذه التجارب المشتركة بين الجانبين خلو العلاقة بينهما من التاريخ الاستعماري، ومع وجود فترات في تاريخ العلاقات بين المنطقتين تميزت بالعنف والغزو، إلا أنها لم تتحول إلى استعمار ونهب للثروات كما عرف من الاستعمار الغربي.

فالاستعمار الغربي تأسس على فكرة نهب المنطقة، وإفراغها من ثرواتها، دون أن يقدم لهذه الدول أو الشعوب أي منفعة. فعند رحيله من المنطقة لم يترك سوى التخلف. ولم نجد أثرًا لمناهج تعليم متطورة، أو معاهد للبحث العلمي، ولا لخطوط التصنيع الحديث أو شبكة متطورة للطرق، أو غير ذلك من أسس النهضة الحديثة في أي مجتمع من المجتمعات.

فالعلاقات بيننا وبين آسيا بهذا المعني تعني أنها علاقات تتسم بالسلمية، لا يشوهها التاريخ بأي من مظاهر العداء المتبادَل أو الأحقاد أو الرغبات الانتقامية. وهو ما يعني أن الجسور بيننا وبين آسيا بالفعل ممهدة، خصوصا أن هناك الكثير من المشتركات التي تجعلهم أقرب إلينا، خصوصًا على المستوى الثقافي.

تجارب آسيوية رائدة

هناك اليوم في آسيا تجارب رائدة، بلغت من النجاح أنها استطاعت أن تتجاوز حدود الجغرافيا والإقليم الذي أنتجت فيه إلى آفاق أوسع ووصلت للعالم كله لاحقًا من مثل تجربة مهاتير محمد في ماليزيا التي نجحت في أن تحقق نتائج تنموية مثالية، مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية للمكان، وهناك تجربة الاقتصاد الصغير، التي حققها البريطاني الهندي المولود في بنجلاديش الحاصل على نوبل في الاقتصاد أمارتيا صن، أضف إلى ذلك تجربة كوريا في إرساء نظام تعليمي شديد التقدم كان يكلف الحكومة الكورية 40% من ميزانيتها سنويًا على مدى أكثر من ثلاثين عامًا قفز بكوريا من موقع الدول المتأخرة المتخلفة إلى مواقع سباقة في الاقتصاد العالمي والرفاهية الاجتماعية لسكانها في زمن قياسي لا يتعدى الثلاثين عامًا.

وسنجد أن قضية الاهتمام بالتعليم كان لها دور مركزي كذلك في نهضة اليابان كما يشير الباحث الهندي البريطاني أمارتيا صن قائلاً إنه بين العامين 1906و1911 كان التعليم يستهلك ما يصل إلى 43% من ميزانية المدن والقرى اليابانية بشكل عام. وبالوصول للعام 1906 وجد ضباط التجنيد بالجيش أنه كان من الصعب أن تجد أي مجند جديد جاهلاً بالقراءة والكتابة. وفي عام 1913، على الرغم من أن اليابان كانت اقتصاديًا لاتزال فقيرة جدًا ومتأخرة، فإنها أصبحت واحدة من أكبر منتجي الكتب في العالم، تنشر كتبًا أكثر مما كانت بريطانيا تنتجه، وضعف ما تنتجه الولايات المتحدة آنذاك، وهو ما يوضح كيف بدأت بشائر النهضة اليابانية عبر هذا الانتاج المعرفي مبكرًا جدًا.

والحق، وكما تجمع العديد من الأدبيات التي تتناول تجربة النهضة الآسيوية، أن تجربة اليابان كلها في التطور الاقتصادي كانت مدفوعة، إلى حد كبير، بتشكيل القدرات البشرية التي تشمل دور التعليم والتدريب، وقد رقي الاثنان عن طريق السياسة العامة ومناخ ثقافي داعم ومؤيد.

كما تشير تلك الأدبيات إلى دور التجربة اليابانية ذاته في إلهام جهود التنمية في بلدان شرق آسيا جميعًا للدرجة التي يمكن معها القول إن ما يسمى معجزة شرق آسيا كان، إلى حد ما، إنجازًا ألهمته التجربة اليابانية.

ومن بين التجارب التي تستحق التأمل أيضًا تجربة لي كوان يو، رئيس وزراء سنغافورة الأسبق الذي يعد واحدًا من أعظم مهندسي بعث شرق آسيا، والذي قدم تجربة استثنائية في بناء اقتصاد بلاده، من جهة، واستطاع أن يجعل سنغافورة قادرة على منح الأقليات إحساسًا قويًا بالأمان والانتماء، وبالإحساس بوجود هوية قومية مشتركة مع الأغلبية، مما عزز من فرص تقدم سنغافورة اقتصاديًا واجتماعيًا بشكل غير مسبوق، فقد كان واحدًا من أهم من بعثوا فكرة قيم الشرق الآسيوي، خاصة في المعرفة والديمقراطية، وقدم الأدلة على كون هذه القيم قد سبقت في وجودها تاريخ أوربا الحديث، وتأسست في عمق نهضة فكرية كبيرة سبقت الحضارة الغربية كثيرًا.

وهذا يعني أن جانبًا كبيرًا من أهمية دعم العلاقات العربية الآسيوية يقوم على أسس المقارنة والدرس والبحث الموضوعي لتلك التجارب ودراستها بجدية ومحاولة الاستفادة منها في تجارب التنمية المحلية في كل المجتمعات العربية.

وإلى جانب هذا كله، فإن جانبًا أساسيًا في التجارب الآسيوية أيضا هو تجاربها الحديثة في الديمقراطية، وسعيها لتحقيق نظم الحكم السياسي بما يتواءم مع فلسفتها الفكرية والدينية القائمة على التعددية، وتعايش الثقافات والأعراق والديانات، جنبا إلى جنب، سواء في الهند أو اليابان أو كوريا الجنوبية أو الفلبين أو تايلاند أو إندونيسيا أو غيرها، مما يوضح طبيعة العلاقة بين الديمقراطية والتقدم الاقتصادي والسياسي.

إعلام متبادل

لهذه الأسباب يصبح بالفعل من الواجب علينا أن نعيد تسليط الضوء على التجربة الآسيوية بكل روافدها، بثقلها في مجالات تكنولوجيا الاتصال والطاقة النووية في الهند وفي التجربة الديمقراطية الفريدة، وبحداثة وسائل التصنيع في كوريا التي أصبحت بين أهم دول العالم الصناعي، وبخصوصية تجربتها التعليمية والسياسية والاجتماعية والصناعية في اليابان، وبقدراتها الاقتصادية الهائلة في الصين، وبكل أبعادها الثقافية المميزة، كثقافات تميل للتعددية واحترام الآخر، كما هو شأن التجربة في كل من ماليزيا وإندونيسيا، وبفرادة قدراتها على احتواء الأقليات كما هو شأن سنغافورة، وغير ذلك من تجارب. إضافة إلى التجارب الأدبية والفنية والفكرية التي تمثلها اليوم أسماء بارزة، في أرجاء المجتمع الآسيوي بلا استثناء، تتفاعل تجاربهم وأفكارهم مع ألمع الأفكار والتجارب المثيلة في المجتمع العالمي.

وعلينا أن نخصص مساحة أكبر من إعلامنا العربي للتجربة الآسيوية، بحيث نزود المواطن العربي، قارئًا ومشاهدًا، بأهم ما يحدث في آسيا من تجارب في الفكر والفنون والثقافة والأدب والتقنيات المختلفة.

وقد لعبت مجلة «العربي» دورًا طليعيًا في هذا المجال عبر نشر العديد من الاستطلاعات المصوَّرة التي توجّهت، على مدى السنوات الأخيرة، بشكل مكثف إلى آسيا، من دولها الكبيرة إلى أصغر مجتمعاتها، تتأمل واقع أهلها اليومي، وحياتهم الاجتماعية، وتقاليدهم، وثقافتهم وخصوصيتها، ونظم التعليم التي يتبعونها، ووسائل الإدارة الحديثة التي ينتهجونها، وكيفية تقديمهم للتعايش في مجتمعاتهم نموذجًا، وغير ذلك مما نظن أنه لايزال أمامنا منه المزيد لإلقاء الضوء عليه بالشكل الكافي، خصوصًا في ضوء مستجدات نهضة آسيا اليوم.

وبالرغم من الجهد الذي تبذله بعض المؤسسات الثقافية العربية في نقل الآداب والأفكار التي تنتج في آسيا، فإن ما أنتج يحتاج إلى المضاعفة، لكي نطلع على ما ينتج اليوم من أفكار وأعمال أدبية وشعرية للكتّاب والفنانين المعاصرين في آسيا، إذ أن أي علاقة طبيعية مما نطالب به مع الشرق الآسيوي لا يمكن أن تتحقق بشكلها المثالي دون فهم حقيقي متبادل، يتأسس على المعرفة، بتنوع الثقافات وخصوبة الأفكار، وتعدد المواهب التي يمتلكونها، خصوصًا ما ينتجه الجيل الجديد من المثقفين وأصحاب المواهب لكي تكتمل الصورة في أذهاننا.

كما يجب، من جانبنا، أن نوجّه إلى الجمهور الآسيوي القنوات الفضائية التي تعتني بتقديم ثقافتنا العربية، تأكيدًا على التاريخ المشترك للعلاقة بين الجانبين، وتوفيرًا للخدمة الإعلامية التي تتضمن ما يحدث على الساحة العربية اليوم، خصوصًا على المستوى الثقافي، بحيث تعطي للمشاهد الآسيوي فكرة جيدة عن ثقافتنا وحضارتنا. بل أن نقدم لمواطنيهم ممن يقيمون في منطقتنا العربية طبيعة هذه الثقافة العربية وخصوصيتها ومظاهرها، وأن نوفر لهم وسائل تعلم اللغة العربية لكي يتمكنوا من التجاوب والتفاعل مع الثقافة العربية.

أبعاد إستراتيجية

إن ما ينبغي الالتفات إليه في هذا الصدد أن هذه المعرفة الثقافية بالآخر الآسيوي لها أبعاد إستراتيجية عدة، فحتى الاستثمار لا يمكن أن يتحقق بشكل يحقق المأمول منه دون معرفة أصحاب رأس المال بالعادات والتقاليد التي تحكم هذه الثقافات، ودون دراسة الميول والرغبات، والقوانين وغير ذلك من عوامل لا تكتمل معرفتها دون السعي الحقيقي للتعرف على هذه المجتمعات، معرفة حقيقية لا مجرد الاكتفاء بالانطباعات السريعة، والنظريات المستهلكة المأخوذة عن الغرب الذي يورّد عن الثقافات التابعة له الصورة التي يرغب في أن يصدّرها للعالم بما يحقق له هو مصالحه.

إن النهضة الآسيوية بإمكانها بالفعل أن تكون ملهمة لتجارب التنمية العربية فى بقاع مختلفة، ويمكن للتقارب العربي الآسيوي أن يصبح أملاً لمستقبل مختلف لكلتا الثقافتين، وربما في المستقبل القريب جدًا لو صلحت عوامل التقارب والحوار بين المنطقتين، كما أن المستقبل العربي بما يتضمنه من آمال تحقيق التنمية التي تستحقها الشعوب العربية، سيجد في تجارب آسيا، ما ينعش آماله بأن إخلاص النوايا، وحسن الإدارة، والتوقف عن التفكير بمنطق «نظرية المؤامرة»، كفيل بأن يحقق كل ما قد يبدو اليوم صعبًا أو مستحيلاً.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*