ثقافـتــنا العـربـيـة وثقافتـهـم الـغـربـيـة

كيف ينظر الغرب إلى الثقافة العربية? سؤال يدفعنا إليه سيل الاتهامات التي تكيلها لنا وسائل الإعلام الغربية. وهي اتهامات لا سند لها في الحاضر, ولكنها تستمد جذورها من عداء تاريخي قديم وخوف قائم تجاه كل ما هو إسلامي.
في الوقت الذي نؤمن فيه بالمسيح ونجله رسمت الكنيسة الغربية صورة قاتمة للنبي محمد وللإسلام

دعم الغرب المشروع الصهيوني كي يظفر بثأر هزيمته
على أرض فلسطين

 

 

في روايته الشهيرة (المخطوط القرمزي) يتعرض الروائي الإسباني الشهير أنطونيو جالا لإحدى نقاط الصراع الساخنة بين العرب والإسبان تحت أسوار (غرناطة). كانت هذه هي آخر عروس المدن العربية التي سقطت وهوى معها حلم الأندلس الذهبي وانطفأت شمس الله في الغرب, كما يقول بعض المؤرخين. تستند الرواية إلى مخطوط قديم يروي أحداثه أبو عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة الذي وقع بيده صاغراً على وثيقة استسلام المدينة وسلمها إلى الملكين الكاثوليكيين في اليوم الثاني من يناير عام 1492م بعد أن حاصرتها جيوش الفرنجة. وهو يقول محدّثاً أعداءه في اللحظات الأخيرة: (لقد عشنا معا نحن المسلمين والنصارى ثمانية قرون, ومتنا من أجل بعضنا البعض. وهأنا أختفي. ومع ذلك لن يكفيكم هذا. ستحاولون أن يختفي كل شيء. ستاولون محونا بأسرع ما يمكن, أن تمحوا حياتنا وديننا وعلى الأخص عاداتنا التي تسمونها كافرة, لغتنا وثقافتنا التي ستعكّر صفو الوحدة المصطنعة التي يبحث عنها ملوككم, لن يتغير صاحب الجنة وحسب, بل سيستأصل الزمن الذي كان لنا في التاريخ, ستزول القرون الثمانية برفة عين ثم سيصير وقع أسمائنا غريبا وستلغى, كل شيء يجب ألا يعود إلى مجراه السابق. من أجل ذلك سيكون اقتلاع الدين واللغة والعادات والقوانين حيطة يجب أن تتخذ…).

وهذا هو ما حدث بالفعل. سقطت الأندلس, وأقيمت محاكم التفتيش تبحث داخل نفوس الجميع عن أي دين أو عقيدة تخالف الكاثوليكية. وقد قامت هذه المحاكم بإشعال الحرائق في أجساد العشرات من المسلمين واليهود وكل من تعرض لوشاية تشكك في عقيدته. وكان هذا التحول على أرض شبه جزيرة إيبريا هو أول أعراض المركزية الأوربية التي لم تكن تقبل في ذلك الوقت أي رأي يخالفها ولم ترض بغير استئصال الفكر الآخر وإبادة كل ما يواجهها من ثقافات أخرى. وقد تكررت هذه الصورة في أكثر من مناسبة كما حدث في بلاد العالم الجديد عندما هبطت إليها قدما الرجل الأوربي الأبيض لتبديد حضارة السكان الأصليين من الهنود الحمر وغيرهم من السُّكان. العرب المسلمون ما فعلوا ذلك عندما استعادوا القدس من أيدي الفرنجة المغتصبين. ولم يفعل المسلمون الأتراك ذلك أيضاً عندما اجتاحوا آسيا الصغرى وعندما سقطت القسنطينة في أيديهم ولم يفعلوها من قبل عندما عبروا إلى الأندلس ناقلين إليها ثقافات المشرق وحضاراته. لقد أبقوا على ذلك الفسيفساء العرقي والديني الذي مازال قائما في منطقة البلقان حتى الآن. ولعل هذا ما دعا كاتبا مهما مثل أنطونيو جالا لأن يقدم مثل هذه الشهادة المنصفة. التي تعد صوتاً نادراً وشجاعاً وسط صرخات من الغوغائية التي مازالت تتواصل ضد الثقافة العربية منذ ظلمة العصور الوسطى حتى انفجارات الحادي عشر من سبتمبر العام 2001 في نيويورك, ولا ننسى الدور المتعاظم للآلة الإعلامية الصهيونية التي تنفخ وتغذي على مدار الساعة تلك الأفكار العنصرية التي نبتت في أوربا إبان الحملات الصليبية ضد العالم الإسلامي, ولا تترك النار تخمد.

التماس الخطر

لا أريد أن أبدو من خلال هذه المقدمة كمن يعاني إحساساً بالاضطهاد العميق من نظرة الغرب لكل ما يخص مظاهر الحضارة العربية الإسلامية, ولا أريد أيضاً أن أسقط في فخ تفسير التاريخ وفق نظرية المؤامرة, ولكن ما أهدف إليه هو محاولة أعمق لتسليط الضوء على الماضي لفهم نظرة الغرب إلينا وإلى ثقافتنا, ولماذا يبدو هذا الغرب متعصباً في أغلب الأحيان ومتفهما في أقلها. لعلنا بذلك نستطيع أن نفهم الكيفية التي ينظر بها إلى الكثير من أنماط الحياة العربية والمواقف التي يتخذها تجاه قضايانا المصيرية.

ومما لا شك فيه أن نظرة الغرب لثقافتنا تختلف عن نظرته لغيرها من الثقافات, لا بسبب الجوار الجغرافي الذي أوجد الكثير من نقاط التماس والاحتكاك الخطر بيننا وبينه على مر العصور, ولكن لأن الإسلام يمثل جزءاً أساسياً من مكونات الثقافة العربية, لذا فقد نظر الغرب إلى هذه الثقافة بوصفها أحد الأسلحة الموجهة ضد عقيدته والتي تختلف وتتضاد معه كما يراها ويفسرها هو. ولم تكن المعركة تحت أسوار غرناطة هي الأولى, فقد سبقها العديد من المعارك بدأت مع انتشار الإسلام في بلاد الشمال وعلى حدود بيزنطة المسيحية ثم جاءت الحروب الصليبية وهي الحروب الاستعمارية الأولى التي حاولوا إلباسها ثوب الدين والصليب, وتواصلت المعارك بعدها إلى وقتنا الحالي. ولعل أهمها يدور الآن على أرض فلسطين. وقد انتصرت الثقافة العربية حينا, وانهزمت حيناً, ولكنها في كل الأحوال لم تسلم راياتها. والمؤسف في هذا التاريخ الطويل أن الصراع العنيف كان هو طابعه الأساس, وليس الحوار والرغبة في الفهم المتبادل وفي التعايش بين الثقافات المتجاورة.

في كتابه (الطريق إلى مكة) يروي الدبلوماسي الألماني مراد هوفمان, أنه عندما أعلن إسلامه وذهب إلى موسم الحج أرسل إلى أمه رسالة من مكة ولكنها رفضت فتحها وهي تقول: فليبق عند العرب!, ويرجع هوفمان سبب موقف أمه الرافض له ولدينه الجديد إلى الفزع الذي يسكن قلوب الأوربيين تجاه كل ما هو عربي وإسلامي, فأوربا التي تتسامح مع البوذيين والوثنيين وعبدة الشيطان لا تستطيع أن تنسى ذلك الفزع التاريخي الذي تتوارثه الأجيال عن المنازعات الحربية بين العالمين المسيحي والإسلامي في القرون الوسطى. وقد لعبت الحروب الصليبية دوراً كبيراً في ثبات صورة العربي المسلم داخل ثنايا المركزية الأوربية حتى الآن, فأوربا لم تهزم فقط عسكريا على أرض فلسطين, ولكنها تبينت أيضاً أن هؤلاء (الكفرة) المسلمين – كما كانوا ينادونهم – هم أصحاب حضارة كبرى ومزدهرة تتفوق على حضارتهم المسيحية الأوربية في مختلف المجالات في ذلك الوقت. وقد أزعجت هذه الحقيقة أوربا وأثارتها ومازالت أيَّة يقظة للإسلام توقظ كل مخاوف الفزع القديم هذه.

وقد رسمت الكنيسة الأوربية صورة قاتمة للإسلام إبان تلك العصور, وفي الوقت الذي ينظر فيه العرب والمسلمون إلى المسيح كواحد من أنبياء الله المرسلين ويعتبرونه حلقة أساسية من رحلة التوحيد والإيمان بالله يلصق الأوربيون بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام كل الصفات السيئة. فقد جعلت صورته شبيهة بصورة الشيطان, كما تعرض الرسول الكريم لكثير من السب والقذف إلى حد وصفه بـ:الدجال والمخادع والمحتال والشهواني.  ويختار سلمان رشدي في روايته (آيات شيطانية) اسم (ماهوند) ليطلقه على الرسول الكريم وكلمة (هوند) تعني الكلب في اللغة الألمانية, وفي الإسبانية فعل التبول على النفس وهي صفات تثير تقززنا نحن العرب الذين تعوّدنا على احترام الديانات الأخرى حتى غير المكتوبة منها, ولا أعتقد أنه يوجد في أي كتاب عربي صفة تسم السيد المسيح أو النبي موسى بأي صفة سيئة, ولكن هذا الأمر كان أحد أساليب الإثارة التي اتبعتها الكنيسة في العصور الوسطى كي تحث الجيوش المتحاربة على غزو العالم العربي تحت راية الصليب.

رداً على الأكاذيب

وفي مواجهة هذه الصورة القاتمة والسلبية نهضت بعض الأصوات من داخل الكنيسة الأوربية نفسها تحاول أن ترد على هذه الأكاذيب والافتراءات. ويكشف لنا الدكتور عبدالله الشرقاوي أستاذ الفلسفة ومقارنة الأديان النقاب عن مخطوط قديم كتبه أحد القساوسة الإنجليز في منتصف القرن السابع عشر وهو هنري ستوب عن حياة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم -, ويعد هذا المخطوط الذي طبع طبعة محدودة سرعان ما اختفت ولم يبق منه إلا ثلاث نسخ يحتفظ بها المتحف البريطاني, يعد أقدم أثر في الأدبيات الإنجليزية, كما أنه يطلعنا على جانب من التصور الأوربي غير الصحيح عن الإسلام. ورغم التربية الدينية لهنري ستوب الذي كان طبيباً وقسيسا ورحالة وتعود على معارضة كل الأفكار السائدة والراسخة, فقد تصدى لمحاولة رسم صورة صحيحة وواقعية عن الإسلام ورسوله لا في مواجهة المتعصبين من رجال الكنيسة فقط, ولكن في مواجهة أدباء ومفكرين كبار أمثال دانتي وشكسبير وفولتير وهم كتّاب كبار لم تسعفهم عبقريتهم في رؤية الحقيقة. كما أن قيمة هذا الكتاب أنه كُتب في عصر الانغلاق المسيحي وقبل حقبة الاستعمار الذي خرجت فيه أوربا لتفرض سيطرتها وتؤكد عقيدتها, ولقد بقي هذا الكتاب مخطوطا لمدة 250 عاما حتى قام أحد علماء المسلمين الهنود يدعى حافظ شيرازي بتحقيقه وتوثيقه ونشرة في لندن عام 1911.
صمود الإسلام

ولعل أكثر ما يثير فزع الغرب في الثقافة العربية الإسلامية هو استمرار وجود هذه الثقافة وصحوتها الحديثة رغم تعرضها للتهميش والإلغاء طوال سنوات طويلة. فمنذ عقود قليلة من الزمن كانت كل الدول العربية ترقد تحت نير الاستعمار الأوربي, وكانت دولها التي خرجت من التركة العثمانية منهكة وضعيفة, وكانت أوربا على يقين, في خلال النصف الأول من القرن العشرين, من أنه لن تقوم للعالم العربي أي قائمة, بل إن بعض المستشرقين قد خصصوا جهودهم وأبحاثهم لدراسة الإسلام من وجهة النظر الأنثروبولوجية باعتباره ديانة آفلة ومعرّضة للانقراض, ومن الواجب معرفة تفاصيلها من باب التأريخ للديانات البشرية.

ولكن ما أثار دهشة الغرب حقاً هو صمود الثقافة العربية الإسلامية رغم فترات الركود التي مرّت بها وبقي الإسلام, على الرغم من تنبؤات كل المستشرقين, هو العقيدة الوحيدة لأكثر من مليار مسلم في مختلف أنحاء الأرض. وبدلاً من أن تنقرض الدول الإسلامية ازداد عددها وخرج البعض منها من دائرة التخلف, فقد استقلت كل الدول العربية, بل وأصبحت واحدة منها وهي مصر إحدى ركائز حركة الكفاح ضد الاستعمار. وكذلك جاءت الثورة الإسلامية الإيرانية مفاجئة وضد كل التوقعات لدى الباحثين في مستقبل الإسلام في إيران. وأثار التحرك الإسلامي فزع أوربا إلى حد اتهام الإسلام بأنه العدو الباقي للغرب بعد أن زالت النازية وسقطت الشيوعية, كما أكدت مقولات الرئيس الأمريكي نيكسون ودراسات المفكر الاستراتيجي الأمريكي هنتنجتون. ويؤكد هوفمان في كتابه المشار إليه أنه عندما أعلن النجم السينمائي ريتشارد جير اعتناقه الديانة البوذية لم يثر هذا أي تعليق أو دهشة أو رفض بينما انهالت عليه – أي هوفمان – الاتهامات بعد أن أعلن إسلامه, بأنه يؤيد الزواج بأكثر من امرأة واحدة وكذلك الاعتداء على النساء بالضرب وبتر الأيدي ورجم الزاني. وهي كلها أعراض فزع وخوف لا مبرر له إلا أنها استرجاع للصورة القبيحة التي كانت تضعها أفكار القرون الوسطى المسيحية للإسلام.

إسرائيل والثأر القديم

وبعيداً عن الحروب الصليبية وسقوط غرناطة واستيلاء المسلمين على بيزنطة يبدو أن التناقض بين العالمين العربي والغربي مازال قائماً وآخذاً في التعمق يوما بعد يوم. وتعد إقامة دولة للديانة اليهودية من قبل الغرب المسيحي على أرض فلسطين هي تجديد ورفع وتيرة ذلك الصراع الطويل تجاه مجتمعات الشرق العربي الإسلامية وعنصرا دائما للتناقض بين العرب والغرب. فإقامة هذه الدولة شاهد على الصلف والغطرسة الغربية ومحاولة تصفية الحسابات القديمة في المنطقة نفسها التي شهدت هزيمة الغرب. ويمثل إقامة كيان عسكري غربي التجهيز والإمداد والدعم إهانة يومية للحضارة العربية التي كانت في بداية نهضتها الجديدة, واستنزافا لكل طاقاتها. ومن المؤسف أن هذه الحضارة لم تكن على مستوى التحدي. فبدلاً من أن يثير وجود هذا (الفيروس) الغريب في جسدها كل غريزة البقاء والمقاومة نجد أنها مازالت تتخبط في دوامات من الهزائم المتواصلة وهي تكتفي بلعن الغرب الذي أوقعها في هذه الورطة بدلا من أن تجسد من قوتها الذاتية سلاحاً تقضي به على هذا الجسد الدخيل.

وقد اختار الغرب بعناية أشد العناصر عداء للعرب وأكثرها عنصرية وهو الصهيونية اليهودية حتى يضرب به العالم العربي ويشتت انتباهه. فقد تخلص من أضرار وشرور وجود العنصر اليهودي على أراضيه من جهة, ومن جهة أخرى ساعد إسرائيل على احتلال مدن وأماكن مقدسة ذات أهمية مركزية بالنسبة للعرب والمسلمين. وقد سبب هذا إحساساً شديداً بالمرارة لدى العرب وجعلهم يشعرون بأن الغرب المرائي الذي يتحدث عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان يدعم ويسلط عليهم واحدة من أشد الأنظمة عنصرية وإيغالاً في العدوانية وسفك الدماء.

وأعتقد أنه رغم ما يقال عن التقارب بين الحضارات والحوار بين الثقافات فإنه لن يحدث أي إنجاز حقيقي في ردم الهوة بين العالم العربي والغرب مادامت إسرائيل موجودة كدولة دينية عنصرية على أرض عربية مقدسة.

الثقافة العربية متهمة

الثقافة العربية إذن – ومهما كانت التطورات – سوف تبقى متهمة في نظر الغرب. وهو يستمد هذه الاتهامات من تراث العداء الطويل للإسلام في أوربا. ورغم تقدم الدراسات الاستشراقية في السنوات الأخيرة وترجمة العديد من الأعمال الأدبية والفكرية إلى اللغات الأوربية فإنها تُقرأ بقليل من الموضوعية اللازمة. فالمشكلة أن نظرة المركزية الأوربية إلى العالم لم تتغير كثيراً منذ القرون الوسطى, ومازالت الأعمال الأدبية التي يذيع صيتها في الغرب هي التي تصور الشرق العربي كمجتمع استبدادي شرقي تعامل فيه المرأة كالجواري.

ويتسلط فيه الواشون والبصّاصون على أقدار الناس. وهو ينتمي في أفضل أحواله إلى عالم ألف ليلة وليلة!
وفي أحد أعداد مجلة (النيوزويك) الأخيرة تم عقد مقارنة بين الإنجيل والقرآن. ورغم أن كاتب المقال (بوب وورد) حاول أن يكون موضوعياً فإنه أشار إلى أن هناك آيات من القرآن تحض على مقابلة العنف بالعنف والقتل بالقتل وأن المتطرفين المسلمين يستغلون هذه الآيات أكثر مما ينبغي في تبرير أعمالهم العدوانية.

ولا تنسى المجلة أن تشير مدللة على ذلك إلى العمليات الاستشهادية التي يقوم بها (المقاومون) العرب ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي.

هذه الاتهامات تصب في الاتهام الأساس للثقافة العربية الإسلامية وهي أنها ثقافة تشجع الإرهاب. وقد أصبح هذا الاتهام سائداً ومؤكداً في نظر الغرب بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ويرى فريد هاليداي في كتابه (الإسلام وخرافة المواجهة) أن سجل المجتمعات العربية في معاملة الأديان والأعراق والطوائف المختلفة كان أفضل بكثير من المجتمعات الأوربية نفسها. فالمسيحية كانت ولاتزال ديناً أساسياً من أديان المنطقة العربية, فيها نشأ, ومنها انتشر إلى بقية أنحاء العالم. كما أن اليهود في المجتمعات العربية عاشوا في أمان قبل أن يختاروا الهجرة إلى إسرائيل. بل إن العرب والمسلمين كانوا هم أنفسهم في بلدان عديدة ضحايا القمع والإرهاب.

والتهمة الثانية التي توجه إلى الثقافة العربية هي أنها معادية للفكر الديمقراطي بمفهومه الغربي. لأنها ثقافة غير قائمة على التسامح والاعتراف بالتنوع, ولا تملك التقاليد اللازمة للاعتراف بالرأي الآخر. وعلينا أن نعترف أن هناك العديد من الأنظمة العربية التي تعيق تطبيق الديمقراطية حتى في حدها الأدنى, وليست تعاليم الإسلام هي المتسببة في ذلك. ومازال العديد من البلدان العربية يعاني التخلف, نتيجة تعنت الدولة المركزية وعدم الفصل بين الدولة والقانون. من هنا ندرك أن تفسير غياب الديمقراطية لطبيعة الدين الإسلامي هو ربط مجحف, ومسألة أن الإسلام هو دين ودولة ما هي إلا ستار استغله العديد من الأنظمة القمعية في الوطن العربي حتى تضفي على نفسها الشرعية المفتقدة وحتى تستأثر بالسلطة. ويمكن تقسيم الفكر العربي إلى تيارين رئيسيين, تيار سلفي تقليدي يعادي كل الفكر العلماني بما فيه الديمقراطية كأحد مكوناته الأساسية. وتيار ليبرالي يرى أن للحضارة مقاييس معيارية واحدة في كل البلاد وعليه فإن التطبيق الديمقراطي ممكن ولا يتعارض مع نصوص الدين بل إنه يستوحي تقاليده المعاصرة من روح الشورى القديمة.

والتهمة الثالثة للثقافة العربية هي أنها لا تعترف بالمعايير التي تضعها الدول المعاصرة لحقوق الإنسان. وفي الحقيقة فإن الثقافة العربية تعاني أشد المعاناة من الأنظمة التي ينتهك فيها حقوق الإنسان بغض النظر عن توجهها الثقافي أو الأيديولوجي. وحتى الكتّاب الذين يجارون السلطة في عسفها يفعلون ذلك من قبيل الخشية واتقاء شرها. ومن المؤكد أن الدول العربية قد ساهمت بنصيبها في العديد من قضايا حقوق الإنسان مثل مناهضة العنصرية ومقاومة عوامل الظلم والاضطهاد التي تقع على بعض الشعوب مثل الفلسطينيين وأهالي البوسنة والهرسك والشيشان وكشمير ولكن العديد من هذه الدول لا تتعامل مع مواطنيها وفق المعايير الدولية المطلوبة. ويحاول المثقفون العرب في معظم إنتاجهم تأكيد إنسانية الإنسان وتحريم الظلم وانتهاك حقوق الإنسان الذي خلقه الله وارثاً للأرض. وأعتقد أن السجون العربية من أكثر السجون اكتظاظاً بسجناء الرأي الذين لم يرتكبوا من الجرائم سوى محاولة إبداء رأيهم في شجاعة في مواجهة قوانين متخلفة وأنظمة لا تسمع إلا صوتها. وهذه مسألة يستغلها الغرب كثيرا ضد ثقافتنا العربية.

وتعاني الثقافة العربية كثيراً من القيود المفروضة عليها والتي تحد من قدرتها على التفكير والابتكار. ولا يعود ذلك إلى جذورها الدينية, ولكن إلى سنوات طويلة من التخلف والقمع المتواصل والموروث أصلاً من حكومات الدول الاستعمارية التي كانت تسيطر على كل البلاد العربية. وقد أثر هذا حتى على مجال الاجتهاد والتجديد في الفكر الديني نفسه. وما تفعله الثقافة العربية في تجلياتها المختلفة مقاومة هذه القيود ومحاولة الانفتاح على الثقافات العالمية, وهي عملية بدأت منذ عصر النهضة وذهاب البعثات الأولى إلى أوربا, ومازالت متواصلة حتى الآن. ولكن هذا العداء الذي تواجهها به الثقافة الغربية يمكن أن يدفعها إما إلى الانكماش أو الدخول في محاولات هوجاء للدفاع عن نفسها.

إننا ندرك أن هناك العديد من الاختلافات والتناقضات بين ثقافتنا والثقافة الغربية, ولكن تبادل الاتهامات لن يحل هذه التناقضات ولا يوجد بديل عن الحوار بين الثقافات المعاصرة سعياً وراء المزيد من التفاهم, فحضارة عريقة ومستمرة مثل الحضارة العربية آن لها أن يتعامل معها كحضارة حية ومؤثرة وليس حضارة هامشية وعلى وشك الانقراض.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*