حـلـم مـجـتـمـع المـعـرفـة الـعـربـي.. إمـا الـتـحـقـق أو الـهـاويـة

في حديثي الماضي, لشهر ديسمبر 2003, قمت بجولة سريعة في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003, وقفزت مباشرة إلى القسم الثاني منه, والمعنون بـ (نحو إقامة مجتمع المعرفة) عن الفصول الثلاثة (من السادس إلى الثامن), وأستكمل مع القارئ في هذا الحديث جولتي حول التقرير وأهم جوانبه التي رغبت في التركيز عليها, وفي ظني أن هذا التقرير يتطلب, من كل من يشغلهم الشأن العام لأمتهم, نقاشًا مطولاً, وندوات ولقاءات على كل المستويات والمراتب في مختلف البلدان العربية, حتى يستفاد مما فيه من معلومات ورؤى مستقبلية وتصورات علاجية لداء التخلف المستوطن في أركان دولنا العربية.

  • إنتاج المعلومة, وامتلاكها واستثمارها معرفة وتطبيقا, صارت هي الثروة الجديدة في عالمنا اليوم وتزداد أهمية في القادم من سنوات هذه الألفية الثالثة.
  • لم يعد تحقيق (مجتمع المعرفة العربي) مجرد ترف ثقافي, بل أصبح حلمًا لابد من السعي الحثيث إلى تحقيقه مهما بدا ذلك مستحيلا.
  • استمرار غياب المعرفة عن الوطن العربي ليس حقًا (أقل من كارثية) والنتيجة المتوقعة هي استمرار العرب في موقع هامشي من تاريخ البشرية القادم.
  • اللغة العربية منجم معرفي زاخر, لو أجدنا تطويره وتحديث أدوات استخراج كنوزه, ومعالجة هذه الكنوز بما يلائم مجتمع المستقبل القريب المأمول, مجتمع المعرفة.

 

في عصر الصناعة نجح الإنسان في صنع آلات تنوب عنه عضليًا, وتنوب عن دوابه, لإنجاز مهام عديدة بكفاءة أكبر وأسرع, وبمجهود أقل. فكانت القاطرة البخارية, ثم السيارة, ثم الطائرة, ثم مركبة اكتشاف الفضاء الخارجي البعيد, ناهيك من آلات البذار, والحصاد, وآلات الغزل والنسج وكثير مما يصعب حصره وتعداده في هذا المقال. ولم نكن في ذلك كله – نحن العرب والمسلمين معنا من غير العرب – إلا مستهلكين, لعقود عديدة, تابعين مضينا في الحياة, خلف المنتجين, وإن كنا فقدنا الكثير من الثروة والفرص, التي لم نستثمرها كمشاركين للمنتجين في عصر الصناعة, والتي أنفقناها كمشترين من أسواق الغرب والشرق أيضا!!

ومع ولوج عصر الصناعة في عصر التكنولوجيا الدقيقة, منذ اختراع الترانزيستور في خمسينيات القرن الماضي أخذت المنتجات الصناعية تتجه نحو التصغير, والتصغير المتناهي, فكانت بلورات السيلكون التي يمكن تمثيلها بغابة كثيفة للغاية من وحدات الترانزيستور – كما يقول د.نبيل علي في كتابه (تحديات عصر المعلومات),, (وكان الكمبيوتر الأسرع, والذي لم يتوقف عن التسارع والدقة حتى صار في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي في حجم راحة اليد)! ومع تطور هذه الآلة التقني, سرعة ودقة وكفاءة, تطور أداؤها فلم تعد حاسبة ضخمة لسحق الأرقام ومعالجة البيانات, ولا حتى لتخزين المعلومات واسترجاعها, بل صارت هذه الآلة – الكمبيوتر – الآن, وبفضل إنجازات الذكاء الاصطناعي آلة معالجة المعارف Knowledge Proscessing (آلة تقوم بتمثيل المعرفة والتنقيب عنها في مناجم البيانات, آلة ذكية تقرأ وتسمع وتميز الأشكال, آلة تفهم وتحل المسائل, وتبرهن النظريات وتتخذ القرارات بل تؤلف النصوص وتولد الأشكال). ولأن هذه الآلة لم تكف عن التطور, بل تنتظرها قفزات مذهلة تضاعف من قدراتها مع إرهاصات اللقاء المثير مع التكنولوجيا الحيوية واكتشاف خريطة الجينات, فإن انفجارا معرفيا يتحقق ويزيد فيضانه مع إنجازات تقنيات الإنترنت والاتصالات الفضائية وغيرها. باختصار هناك طوفان من المعلومات الزائدة Information Over Load, وهناك سعي جبار للسيطرة على هذا الطوفان لتأهيل البشرية لنوع جديد من التحدي المعرفي, فأين العرب والمسلمون من كل ذلك?

إننا – كعرب – نحيا ونمضي في الركب, مشاركين قليلا أو متفرجين ولكن مستهلكين كثيرًا, ولم يعد هذا – كما في عصر الصناعة – يكفينا للاستمرار, لأن ثمة فجوة تتكون هي (الفجوة الرقمية) الدالة على الفارق بين من يمتلك المعلومة ومن يفتقدها, والتي تتسع بداهة في حقل من لا ينتج المعلومة أو لا يشارك في إنتاجها, مما يهدد هذا الحقل بأن يتحول إلى أرض يباب, لا تعطي زرعًا ولا عشبًا, وتصير عبئًا على من يعيشون على ظهرها, كما هم عبء عليها اليوم.

ثروة المستقبل القريب

إنتاج المعلومة وامتلاكها واستثمارها معرفة وتطبيقًا, صارت هي الثروة الجديدة في العالم اليوم وسيشار إلى المجتمعات الأكثر تطورا وغنى على أنها مجتمعات معرفة لا مجتمعات صناعية متقدمة. وهذا يعني أننا سنكون متأخرين حقبتين كاملتين من حقب تطور المجتمعات الحديثة إن لم نتدبر أمورنا ونلحق بمجتمع المعرفة. (وقد فاتنا عمليًا اللحاق بالمجتمع الصناعي المتقدم). والتأخر هذه المرة سيكون قاتلاً, فالموارد الطبيعية تتآكل وتفنى بسرعة, بدءًا من الماء ووصولاً إلى النفط, والثروة المعرفية ستجعل من يمتلكها يجيد توظيف ما لديه من موارد مهما ندرت وشحت, بل ستوفر المعرفة إمكانات اكتشاف مواد جديدة لا تستنزف طاقة القليل الباقي, وعلى العكس من ذلك سيكون البعيدون عن مجتمع المعرفة. فقراء في الموارد, ومستنزفين لهذه الموارد إلى حد الإهدار, ومن ثم يزدادون فقرًا وبؤسًا.

ولأن المعرفة لم تعد وقفا على معطيات العلم, بكل أطيافه من العلوم الإنسانية والتطبيقية, والتي تذوب الحواجز بينها الآن معرفيا, بل صارت المعرفة في مجتمع المعرفة نسقًا من إتاحة المعلومات للجميع – كحق من حقوق المواطنة – في كل ما يخص حياة المجتمع السياسية والاجتماعية. وهذا يعني شفافية أكثر وسيطرة أوسع على الفساد والانحراف. وهي مفارقة موجعة بين (مجتمع المعرفة) ومجتمع (غياب المعرفة) أو (فقر المعرفة), فبينما مجتمع المعرفة يكون أكثر ثراءً ووفرة وأقل فسادًا سياسيًا واقتصاديًا, يكون النقيض في مجتمع غياب معرفة موغلا في الفساد السياسي والاجتماعي.

إذن, لم يعد تحقيق (مجتمع المعرفة العربي) مجرد ترف ثقافي و(كلام مثقفين), بل صار حلمًا لا بد من السعي الحثيث والدائم إلى تحقيقه مهما بدا ذلك مستحيلا. وهو غير مستحيل على الرغم من كل شيء.

فثمة لبنات لدينا, وثمة إمكانات طيبة وإن تكن مبعثرة هنا وهناك, لكن تحقيق الحلم الذي لا يجعلنا في عالم المستقبل القريب من الغارقين لا بد من توافر شروط لإنجاز تحققه وقيامه.

لقد تحدثت في الافتتاحية السابقة (العربي ديسمبر 2003), عن معوقات مجتمع المعرفة في عالمنا العربي, من واقع قراءة في (تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني لعام 2003) وهنا أواصل تلك القراءة فيما أسماه التقرير (نحو إقامة مجتمع المعرفة – رؤية استراتيجية) وهذا يعني أن التقرير يتكلم عن شروط مستقبلية, وإن كان لم يحدد ما هو المدى الزمني المتاح لهذه الشروط, هل هو المستقبل القريب أو المتوسط أو البعيد, مع أن هذا التحديد ضروري حيث يلعب عنصر الزمن دورًا فارقًا وحاسمًا في سباق تتفجر فيه المعارف وتتضاعف بشكل هائل ومتسارع مما يعني مضاعفة الفجوة المعرفية بشكل هائل ومتسارع أيضا. ولعل التقرير انتبه لذلك منذ بداية هذا القسم الخاص بالرؤية الاستراتيجية فأعلن عن تواضعه بالإشارة إلى أن رؤيته هذه مجرد اجتهاد لصياغة تصور لإقامة مجتمع المعرفة في البلدان العربية, مساهمة في حفز النخب العربية على المشاركة الفعالة في (إبداع رؤية عربية صميمة لبناء نهضة إنسانية في الوطن العربي).

المعرفة الطريدة!

لم يستطع التقرير, وهو يسعى للحديث عما أسماه (أركان مجتمع المعرفة الخمسة), إلا أن يقرع ناقوس الخطر من حال المعرفة في البلدان العربية ومغبة استمرار الحال على ما هي عليه. فالمعرفة تبدو طريدة في البلدان العربية, بما ينطوي عليه ذلك من (استمرار تدني الرفاه الإنساني في معظم بلدان الوطن العربي, ويقلل من فرص التنمية الإنسانية في ربوعه, هذا على حين يتحول العالم المتقدم إلى مجتمعات كثيفة المعرفة, إنتاجًا لهذه المعرفة واستهلاكًا لها).

وهذا الموقف المتوجس في مطلع استشراف شروط قيام مجتمع المعرفة يعكس مخاوف حقيقية, فالنتيجة المنطقية لاستمرار غياب المعرفة عن الوطن العربي ليست حقًا (أقل من كارثية) والنتيجة المتوقعة لغياب المعرفة أو تغييبها هي استمرار العرب في موقع هامشي من تاريخ البشرية المقبل. وهو موقع قد يكون عاقبة منطقية لانحطاط دام سبعة قرون أو أكثر بينما القطاعات المتقدمة من البشرية ترتقي معارج مطردة من إنتاج المعرفة والتنعم الإنساني, وهذا الوضع المتراجع (لا يفي بحمل المطامح المشروعة للشعب العربي في وجود كريم ومقتدر في الألفية الثالثة). وهنا لا بد من أن نتوقف ونعترض على هذا السياق الذي يبرئ (الشعوب) من مسئولية التردي, وكأنها مفعول به دائم, أو لم تبلغ أبدا مرحلة الفطام وتحمل المسئولية عما يحدث في مجتمعاتها, الشعوب مسئولة مسئولية كاملة ومزدوجة, عن نفسها وعن أداء من تختارهم, أو ينبغي أن تختارهم, لتنظيم جهودها وإدارة أنشطتها.

وينبغي أن نكف عن هذه التبرئة المجانية, لأنها تكريس لاستمرار لا مسئولية الشعوب التي ينبغي أن تكون المسئول الأول عن تخلف أو تقدم مجتمعاتها.

فإذا كان للشعوب العربية (مطامح وتطلعات لوجود كريم ومقتدر في الألفية الثالثة) فإن هذا يرتب عليها أدوارًا فاعلة وإصرارًا على الأفضل, من الآن وإلى أن يشاء الله.

كيف ينهض مجتمع معرفي عربي? هذا السؤال يحمل الإجابة عنه تقرير التنمية الإنسانية العربية الثاني بالقول إن الفوز (على درب المعرفة) يتأتى عبر تعاون عربي متين يستهدف الوحدة على صورة منطقة مواطنة عربية حرة, ويفضي هذا التعاون العربي إلى تعظيم القدرة التفاوضية لجميع العرب في المعترك العالمي بما ييسر الاستفادة من فرص العولمة في اكتساب المعرفة ويساعد على توقي مخاطر احتكار المعرفة من قِبَلْ منتجيها.

لقد أصاب التقرير بداية عندما تحدث عن (مجتمع عربي) فابتعد بذلك عن استدعاء الأحزان وذكريات الآلام السياسية والإحباطات المرتبطة بحديث الوحدة أو بالأحرى الوحدات السياسية المفروضة من فوق! أما صياغة مفهوم التجمع العربي المأمول لإنجاز مجتمع المعرفة بأنه (منطقة مواطنة عربية حرة) فهي إيجاز بليغ يلمح إلى شكل التجمع العربي المأمول للنهوض بمجتمع المعرفة, وهو تعبير يوحي بمنطق التجمعات الاقتصادية التي صارت سمة في عالمنا المعاصر, ويوحي بشرط الحرية قرينا للمواطنة, لكنه يظل تعبيرا ينقصه الإيضاح والتحديد. ولعل ذلك مما أرجأه التقرير إلى الجزء الذي يتحدث فيه عن بناء مجتمع المعرفة العربي باعتماد المعرفة مبدأً ناظمًا للحياة البشرية, بهدف تطوير نهضة إنسانية في عموم البلاد العربية عبر إنتاج المعرفة والتوظيف الكفء لها. أي إقامة بناء معرفي جامع, ومن ثم كان لا بد من تحديد أعمدة يقوم عليها هذا البناء.

خمسة أركان للحلم

يلخص التقرير شروط قيام مجتمع المعرفة العربي بخمسة أركان هي:

  1. إطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم وضمانها بالحكم الصالح.
  2. النشر الكامل للتعليم راقي النوعية مع إيلاء عناية خاصة لطرفي المتصل التعليمي, وللتعليم المستمر مدى الحياة.
  3. توطين العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير التقاني في جميع النشاطات المجتمعية.
  4. التحول الحثيث نحو نمط إنتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية العربية.
  5. تأسيس نموذج معرفي عربي عام أصيل, متفتح ومستنير.

خمسة بنود, أو قواعد, قدمها التقرير لإصلاح السياق المجتمعي لاكتساب المعرفة, وتقوية منظومة اكتساب المعرفة ذاتها في الوطن العربي وصولاً إلى الهدف وهو إقامة (مجتمع المعرفة العربي).

وإذا كان الكثير منها بديهيا محسوسا ومطلوبا لدى الإنسان العربي من واقع ما يعيشه, لا بحكم ما يحلم به, فإن بعض هذه البنود, أو أجزاء منها, في حاجة إلى الإضاءة التي توصلها صحيحة إلى القارئ العربي العام للتقرير, أو القارئ عنه.

ففي أول البنود (حريات الرأي والتعبير والتنظيم) اعتاد الإنسان العربي أن تكون هذه مناداة للإصلاح السياسي, وهذا مفهوم, أما علاقة الحريات بالمعرفة فهي دقيقة وحاسمة خاصة أن هناك التباسًا تاريخيًا أوحى بأن تحقيق تقدم معرفي في مجالات التقانة لمصلحة الإنتاج الاقتصادي تم في ظل (ديكتاتوريات مستنيرة) كما حدث في كوريا الجنوبية, قبل استقرار الديمقراطية فيها, أو إندونيسيا في ظل الحكم العسكري بقيادة سوهارتو, ولمصلحة أدوات الحرب والدفاع في ظل ديكتاتوريات مغلقة الأيديولوجيا كما في كوريا الشمالية, أو حتى تجربة الصين تحت حكم ماوتسي تونج وخلفائه, إلا أن ذلك لا يمد الإنجاز المعرفي إلى مجالات أساسية كالعلوم الإنسانية والاجتماعية والفنون والآداب – وهي أساس لأي تقدم ونهضة معرفية – كما أن المعرفة تظل مجرد بقع منعزلة في نسيج المجتمع مما يهدد هذا النسيج بالاهتراء, وهي حال رأيناها واضحة, ونراها اليوم في مواقع حققت قفزات معرفية في جوانب التسليح, لكنها تركت قطاعات عريضة من شعوبها تعاني الجهل والفقر والمرض.

إذن الحرية هي شرط أساسي, بل هي شرط حياة أو موت للتقدم المعرفي الصحيح والقابل للاستمرار والانتشار خلال نسيج مجتمع متجانس, معافى, وأوضح مثال هو حيوية البحث العلمي والتطوير التقني والتعبير الفني والأدبي, فهذه الحزمة المعرفية الشاملة لا تصح ولا تنمو بغير الحرية.

وهنا لابد من إحاطة شرط الحرية بسياجات محددة وحامية, فيبرز شرط احترام القانون إذ إن القاعدة القانونية هي الأساس الوحيد لضبط السلوك الإنساني عامة, وقيام قضاء نزيه وسليم وكفء, ومستقل بلاشك, يقوم على تنفيذ أحكام القانون بلا انتقاء ولا استثناء, ومن ثم يحقق الاحتكام إلى القانون محيطًا آمنًا للإبداع المعرفي لاشك فيه.

ومع توسيع نطاق الحريات التي يحرسها القانون ثمة جهد كبير مطلوب, ليس من الإدارات السياسية وحدها, ولا الفعاليات الاقتصادية, بل من أول المستفيدين من هذه الحرية, أي المثقفين ومنتجي المعرفة أنفسهم, فليس ثمة تصوّر أن يظل المثقفون ومنتجو المعرفة قابعين في شرانق مغلقة عليهم وتهبط حولهم الحرية ويزدهر القانون وهم لا يعملون لمصلحة هذه الحرية التي تصونها العدالة والتي يولد من رحمها (الحكم الصالح) الذي يعزز الطلب على المعرفة في جميع قطاعات المجتمع ويدفع بعمليات إنتاج المعرفة إلى الأمام, إذ يكون هذا الحكم الصالح ضمانة لعقلانية اتخاذ القرار الذي ينبغي بدوره أن يقوم على أسس معرفية غنية وواضحة. وهكذا نتبين مدى الارتباط الوثيق بين أشياء كانت تبدو لنا متباعدة, لكنها في مضمار السعي إلى الرقي المعرفي تتكشف كنقاط متحركة في دائرة متكاملة.

العلم وتوطينه

لقد آثرت جمع البندين الثاني والثالث من أركان قيام مجتمع المعرفة معًا, لأنهما في رأيي لا ينفصمان, بل هما متكاملان يغذي كل منهما الآخر, فإذا كان (الإنسان هو معيار الأشياء جميعا) كما قال الإغريق, فإن هذا ينطبق أكثر ما ينطبق على منظور التنمية الإنسانية, حيث الإنسان مبناها ومبتغاها. وبديهي أن التعليم هو صلب عملية تنمية الإنسان, والمعرفة هي أداة التعليم المأمول, وكلاهما – التعليم والمعرفة – ليس سلعًا تستورد وتستخدم شأنها شأن السيارات أو الملابس أو الأطعمة, بل هما مرتبطان عضويا بثقافة وبنى مؤسسية وأنشطة لابد أن تغرس في واقع مجتمعي بشري محدد, وتُروى وتُرعى, حتى تنمو متلائمة مع هذا الواقع وتصير قابلة للعطاء المقبول والمرحَّب به من أبناء هذا الواقع.

ومن هنا أستبق الكلام عن العلم بالكلام عن توطينه, فالتوطين هو الأصعب, لأنه يتطلب أولاً إصلاحًا جذريًا للتعليم عمومًا, وللتعليم العالي بشكل خاص, في البلدان العربية, ويتطلب ثانيًا نسقًا عربيًا للابتكار يتمركز قطريًا متخللاً النسيج المجتمعي بكامله متواصلاً مع امتدادات عربية ودولية قوية. وهذان المطلبان اللذان تحتويهما سطور قليلة هما مهمتان ضخمتان لأنهما يتضمنان إجراء إصلاحات جوهرية داخل كل بلد عربي, ثم تعميق التعاون بين البلدان العربية, وبينها وبين العالم المتقدم بشكل صحي وكفء. وإذا بدأنا الآن وبإخلاص وجدية كما حدث في ماليزيا, حين أعلن مهاتير محمد, الذي غادر موقعه السياسي بإرادته الكاملة في الشهر الماضي, يوم أمسك بزمام الأمور في بلاده عن برنامج لدخول عصر المعلومات يوم كانت ماليزيا شبه منسية وكان عصر المعلومات يشرق بتكتم في الغرب, وبعد خمسة عشر عاما من السعي والدأب وإشراك كل النسيج المجتمعي الماليزي في عملية النهوض صارت ماليزيا من أبرز النمور الآسيوية اقتصاديًا, وبالأساس علميًا ومعرفيًا وتقنيًا, ولاتزال.

ولأن الفجوة المعرفية ستظل قائمة, بيننا وبين الغرب المتقدم, وإن ضاقت, فلابد لعملية توطين العلم أن نحدد أهدافا متمايزة, تفلت من وحشية المنافسة غير المتكافئة مع الذين سبقونا بأشواط وعقود, وتلائم الواقع العربي, بيئة وثقافة وموارد, ومثال ذلك في مجال معضلة التطوير التقني: التركيز على صناعات النفط المتطورة وتحسين البيئة المحيطة بهذه الصناعات, واقتحام عالم تقانة المعلومات والاتصال, والإيغال عميقا في صناعة مصادر الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح والطاقة الشمسية وتحلية المياه, ليس فقط لحاجة المنطقة العربية القصوى إلى استثمار هذه الطاقات, بل أيضا لأنها متاحة مما يسمح بنصيب أوفر للتجريب والبحث والتطوير في مجالاتها.

وشرط تحقيق هذا والطريق إليه لن يتأتيا إلا بالاعتراف الصريح بحاجتنا إلى العلم الغربي, وبأنه لا وسيلة للوصول إليه إلا بالتعاون والتنسيق مع دول هذا العلم على مستوى كل المصالح المشتركة, لكي نتمكن من إنجاز البدء في نقل وتوطين العلم في دولنا, أمّا موقف العداء, والرفض الدائم لدول العلم وحملته فلن يصل بنا, ونحن في مأزقنا التاريخي الحالي, إلاّ إلى مزيد من الجهل والتخلف والعزلة عن العالم من حولنا.

أعود بعد هذا الاستطراد للتأكيد على أن هذا التوجه في توطين العلم في المجتمع العربي ما عاد ممكنا أن يقوم على عاتق الحكومات منفردة, حتى لو كانت (صالحة), بل لا ينبغي أن يقوم على عاتقها منفردة, حتى يتحاشى العلم استبداد الرأي الواحد واحتمال بروز البيروقراطية, هذا ما غاب عن التقرير وهو يتحدث – دون تفسير – عن وجوب مشاركة المجتمع المدني, خاصة منظمات العاملين بالمعرفة, في توطيد العلم في المجتمعات العربية.

أما العلم نفسه, فإصلاحه وتطويره ليسا في حاجة إلى الكثير من الإيضاح, إذ إن الداء الذي أصاب التعليم العربي ظاهر, وأبسط وسائل العلاج وأوضحها هو إقامة النقيض لأسباب الداء, أي الأخذ بأسباب الصحة, ومنها: القضاء على أشكال الحرمان من التعليم الأساسي, والتخلص من عار الأمية المنتشرة, – تخلصت منها مجتمعات أكثر فقرًا من المجتمعات العربية – وترقية نوعية للتعليم لاكتساب قدرات جديدة يمنحها التعليم الذاتي وملكات التحليل والنقد التي تُؤسس للإبداع والابتكار والمغامرة, وإنشاء مؤسسات مستقلة لتقييم برامج ومؤسسات التعليم العالي واعتمادها ضمانًا للجودة. وفي هذا الجانب يمكن أن يمثل قيام مؤسسة عربية مستقلة ضمانًا لجودة التعليم العالي في كل أنحاء البلاد العربية, حيث يتلاشى عنصر المجاملة أو الفساد في قطاع التعليم في كل قطر.

إن التركيز على التعليم العالي في منظومة إصلاح التعليم ليس علاجًا للشجرة من أقصى فروعها وهو ما لم يوضحه التقرير برغم حاجته للإيضاح, بل هو إصلاح يتوجه نحو الجذور, إذ إن ثمار التعليم العالي الجيد سرعان ما تتحول إلى معلمين جيدين وقادة للعلم رفيعي المستوى يحسنون رعاية وتنمية البذور والجذور الجديدة في مراحل التعليم الأولى والمبكرة.

ومن ثم فإن هدف التعليم العالي في البلدان العربية لابد أن يتحول من مجرد تخريج متعلمين يحملون كمّا من المعلومات سرعان ما تتلاشى, إلى إعداد مواطنين أكفاء لمجتمع المعرفة, قابلين لمزيد من التعليم الذاتي المستمر, ولائقين لحسن الأخذ من تطورات العلم, وجودة العطاء فيها.

وإذ وقفنا بإيجاز أمام قضية اللغة العربية في هذا كله, والتي أود أن أفرد لها معالجة في الافتتاحيات المقبلة في هذا المكان (وهي تستأهل الكثير من المعالجات), فإنني أقول مع التقرير وبإيجاز: نعم (يمكن للغة العربية أن تصبح من أهم مقومات التكتل العربي المعلوماتي). وهذا عنصر نادر لم يتوافر حتى لأوربا الموحدة, ولا لدول الآسيان, أو أمريكا اللاتينية, فهي – أي اللغة العربية – منجم معرفي زاخر لو أجدنا تطويره وتحديث أدوات استخراج كنوزه, ومعالجة هذه الكنوز بما يلائم مجتمع المستقبل القريب المأمول, مجتمع المعرفة.

من الاقتصاد إلى الثقافات الإنسانية

المعرفة لم تعد بضعة كتب أساسية وإضافات متفرقة, كما كانت منذ عقود, فثمة انفجار معرفي حقيقي يولّد بدوره انفجارات معرفية إضافية في كل يوم وساعة, وهذه ليست مجرد عمل ذهني بشري فهي بنية فوقية تتغذى على بنى أخرى تحتها ومن حولها, سياسية (بالدرجة الأولى) واقتصادية واجتماعية, وفي مجال الاقتصاد المواكب لمجتمع المعرفة يحتاج العرب إلى تطوير وجود أقوى في الاقتصاد ويدفع بالاستثمار الجديد – استثمار المعرفة – حيث القيمة المضافة أعلى وأسرع نموّا.

وإذا ما تركنا أمور الدنيا قليلا واتجهنا إلى آفاق الدين الرحبة, كان لزاما علينا أن نحتفي بالتأويلات المستنيرة للدين الحنيف, وتلك التي تنهج نهج الاجتهاد وتتوخى مصالح العباد. وقد يكون في استقلال المؤسسات الدينية كما جاء في التقرير استرجاع لدور هذه المؤسسات الأصيل وتمكين أقوى لصحيح الدين وصيانة المصالح المرسلة للناس.

ولعلي أضيف هنا مما قاله مهاتير محمد في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الأخير لمنظمة العالم الاسلامي الذي عقد في كوالالمبور عاصمة ماليزيا, التوصية بأنه ينبغي علينا نحن المسلمين أن نوازن بين دراستنا للعلوم الدينية والعلوم الحديثة والرياضيات, وهذه الدعوة ثاقبة الرؤية من مهاتير محمد, ليست فقط من أجل الدنيا, بل هي أيضا من روح الدين الحنيف, إذ لن يكون مقبولاً دينيًا على أي نحو أن يظل المسلمون هم الأكثر تخلفًا وفقرًا بين شعوب الأرض, بينما صحيح الدين, والإسلام تحديدًا, هو حافز أكيد وداعٍ إلى اكتساب المعرفة والترقي في الحياة, وهذا لن يتأتى للمسلمين إلا بثورة (إصلاح ديني) تزيل كل ما علق بالإسلام والمسلمين من عهود التخلف والذل الذي ساد العالم الإسلامي مئات السنين, ما علق به من جهل وخرافات وخزعبلات, وهو – العالم الإسلامي – يرزح تحت سلطة الدول الأجنبية وهجمات البرابرة من كل اتجاه, كالمغول والصليبيين وغيرهم.

وإذا كان العرب في سعيهم إلى إقامة مجتمع المعرفة يتوجب عليهم إصلاح حالهم وبيتهم, وإعادة هندسة العلاقات العربية – العربية, فإن هناك بعدًا آخر يتوجب عدم نسيانه أو الاستهانة به, وهو إعادة هندسة العلاقات العربية بالعالم أجمع, شرقه وغربه, وبما يفيد ويستفيد. فالعرب في حاجة ماسّة إلى توثيق عرى التفاعل والتفاهم مع الثقافات الإنسانية كافة, على أساس متين من الفهم العميق والاحترام المتبادل.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*